حيرة مريض نفسى بين الطب والغيب
3 مشترك
شـموع الامـل للدعم النفسى وتطوير الـذات :: شموع الامل النفسية :: استشارات اجتماعية :: استشارات و مشاكل المراة النفسيه
صفحة 1 من اصل 1
حيرة مريض نفسى بين الطب والغيب
كثيرا مانواجه من مرضانا ( أو ذويهم ) بهذا السؤال : أهو مرض أم مس من الجن أم سحر أم حسد ؟
والسؤال منهم ليس ترفا وإنما هم يريدون أن يحددوا جهة الإختصاص التى يلجأون إليها حتى يطمئنوا أن جهودهم وأموالهم لن تضيع سدى . فالمريض قد تحير بين طبيبه وشيخه فالطبيب يجزم بثقة بأن هذه حالة نفسية علاجها الدواء والشيخ المعالج يؤكد أن هذه حالة مس من الجن علاجها القراءة وإخراج الجن ووضع التمائم والتعاويذ . ويجد الطبيب نفسه فى موقف صعب فهو إن أنكر هذه الأشياء ( أو الممارسات العلاجية الشعبية المترتبة عليها ) فإنه يصطدم بمعتقدات المريض وأهله ، وإن وافق عليها فهو يثبت نوع من التفكير السحرى تضيع فى سراديبه الحقائق الطبية والدينية معا ، وفى كثير من الأحيان لايوجد لدى الطبيب الوقت الكافى لشرح وتوضيح تفاصيل هذه المسألة الشائكة لكل مريض يزوره .
وقد ثبت من بعض الأبحاث أن 70-80% من المرضى النفسيين فى المجتمع المصرى يترددون على المعالجين الشعبيين طلبا للعلاج ، وطبقا لتقارير المركز القومى للبحوث ( سبتمبر 2003 ) فإن فى مصر مليون مواطن يعتقد أنه ممسوس بالجن وثلاثمائة وخمسون ألف شخص على الأقل يعملون فى مجال العلاج بإخراج الجن ويطلق كل منهم على نفسه لقب معالج أو شيخ .
ولم يعد الأمر يقتصر على المستويات الشعبية الدنيا وإنما امتد ليشمل مستويات تعليمية عالية تصل الى مستوى أساتذة الجامعات خاصة حين يصطبغ العلاج الشعبى بالصبغة الدينية أو يتستر وراءها ( وهو غالبا مايفعل ذلك بحثا عن المصداقية واتقاءا للنقد ) . فقد بالغ الشرق فى الحديث عن عالم الجن والسحر والحسد بحيث اختلطت الحقيقة بأضعافها من الخيالات والأوهام والحكايات وعلق كل شىء فى عقول العامة ( ونسبة غير قليلة من الخاصة ) على الجن والسحر والحسد حتى إذا ذهب أحدهم لطبيب فإنه يذهب قبل ذلك أو أثناء ذلك أو بعد ذلك لمعالج يخلصه من السحر أو الجن أو كلاهما ، وأصبح هناك –كما رأينا - الكثيرون ممن يقومون بهذه الوظيفة . لذلك سنحاول ً إيضاح الصورة وتخليص الحقيقة من بين الخيالات والأوهام بعون من الله وتوفيقه .
الجن حقيقة شوهتها الشعوذة :
هذا الكون الذى نعيش فيه يحوى الكثير من الكائنات والقوى والعوالم بعضها نستطيع إدراكه بحواسنا أو بوسائل إدراكنا وبعضها نعجز عن إدراكه ، وهناك فرق بين وجود الشئ وإدراكه ففى زمن مضى لم نكن ندرك وجود الميكروبات أو الفيروسات ومع ذلك كانت موجودة وتؤثر فى حياتنا فى صورة أمراض نشعر بأعراضها مثل ارتفاع الحرارة والألم وغيره . هذا على مستوى الرؤية الميكروسكوبية الدقيقة ، فإذا انتقلنا الى مستوى الرؤية التلسكوبية عرفنا أننا أيضا فى الماضى كنا نجهل الكثير عن الكواكب والنجوم لأننا لم نكن نملك وسائل إدراكها ، وحين امتلكنا تلك الوسائل رأينا وأدركنا ما تسمح به هذه الوسائل وتيقنا أن هناك عوالم أخرى لانستطيع إدراكها بوسائلنا الحالية .
فإذا جاءت الأديان كلها وحدثتنا عن عوالم الجن والملائكة والعرش والكرسى والجنة والنار فلا يليق أن ننفى وجود هذه الأشياء لمجرد أننا لانستطيع إدراكها ، فهناك أشياء شاءت إرادة الله أن ندركها وننتفع بها ، وأشياء أخرى حجبت عن إدراكنا لحكمة يعلمها الله . يقول تعالى :
" وعنده مفاتح الغيب لايعلمها إلاهو ويعلم مافى البر والبحر . وماتسقط من ورقة إلايعلمها ولاحبة فى ظلمات الأرض ولارطب ولايابس إلا فى كتاب مبين " ( الأنعام 59 ) .
إذن هناك قوى خير ممثلة فى الملائكة لها تأثير فى حياتنا على الرغم من عدم إدراكنا إياها ، وقوى شر ممثلة فى الشياطين وهم مردة الجن ، وهناك سورة كاملة فى القرآن الكريم عن الجن تبين طبيعة خلقهم ووظيفتهم والقوانين التى تحكمهم ، ومن ضمن هذه القوانين أنهم يروننا ولانراهم " إنه يراكم هو وقبيله من حيث لاترونهم " ( الأعراف 27 ) ، إضافة الى قدرتهم الهائلة على الحركة والتأثير التى تفوق قدرة الإنسان ، ومن هنا جاء خوف الإنسان من هذه القوة الخفية التى يمكنها أن تؤثر فيه أو عليه ( بدافع منها أو بتوجيه من شرار الإنس ) دون أن يراها أو يملك وسيلة لدفعها ، هذا الخوف أحاط موضوع الجن بالكثير من الحكايات والأساطير . وقد ااستغل الدجالون والمشعوذون هذا الخوف ولعبوا عليه وضخموه فى عقول العامة ، وأقاموا على أساسه ركاما هائلا من المعتقدات والممارسات الأسطورية والسحرية جعلت لهم سلطانا على عقول وقلوب الدهماء خاصة فى المجتمعات المتخلفة . ولكى يستمر سلطانهم وسيطرتهم فهم يحيطون أفكارهم وممارساتهم ببعض التصورات شبه الدينية لكى يحتموا بها ويزيد تأثيرهم فى الناس . وللأسف الشديد لم يعد تأثيرهم يقتصر على العامة كما تعودنا ، وإنما استطاعوا ببراعتهم وخداعهم واستخدامهم للرموز الدينية أن يغزوا عقول المتعلمين والمثقفين فأصبح من روادهم عدد لابأس به من حملة الدكتوراه وبعض أصحاب الرأى والفكر .
وعلى الجانب الآخر فقد أدت الاكتشافات الطبية الكبيرة فى مجال الأمراض النفسية إلى الاعتقاد بأن كل شىء أصبح واضحاً وأن ما كان يعتقده الأولون من حالات تأثير للجن أصبحت الآن مفهومة من خلال عمليات اللاشعور التى تقوم بوظيفة دفاعية لمصلحة توازن المريض وأكثر هذه الحالات إثارة للجدل هى حالات الهستيريا وهى الحالات المسئولة عن هذا التشوش فهى التى استغلها المعالجون الشعبيون لإثبات صحة عملهم وفاعليته وهذه الحالات تصيب الشخصيات غير الناضجة انفعاليا والقابلة للإيحاء فى نفس الوقت فيحدث أنه فى مواجهة ضغوط معينة كعدم قدرة الطالب أو عدم رغبته فى إكمال الدراسة أو عدم تكيف زوجة فى زواجها أن يحدث انشقاق فى مستوى الوعى فتحدث حالات الإغماء أو الصرع الهستيرى أو يتصرف الشخص كأنه شخص آخر ليعبر عما لايستطع التعبير عنه فى حالاته العادية وأحيانا يتغير صوته ويأتى بأفعال تثير خيالات العامة وتأويلاتهم ودهشتهم فيلجأون إلى بعض المعالجين الشعبيين حيث يقومون ببعض الإيحاءات للمريض أو إيلامه بالضرب إذا لزم الأمر فيفيق من هذا الإنشقاق الهروبى بسرعة تبهر العامة وتزيد ثقتهم بهذا المعالج ، ولكن الأعراض ما تلبث أن تعود عند أول ضغط نفسى أو اجتماعى لأن المعالج لم يبحث عن الأسباب وإنما عالج العرض الموجود فقط فى جو من الغموض ، بل ويحدث أن يتمادى المريض فى أعراضه ويطورها بعد ما سمع ورأى من إيحاءات عن تلبس الجن له وتزداد الأمور تعقيداً وهنا يعود أهل المريض إلى المعالج الذى يبتزهم تحت وهم تأثير الجن . وقد أراد بعضهم أن يوسع تأثيره على الناس فسجل أشرطة تبين كيف يخرج الجن من المرضى وانتشرت هذه الأشرطة وسببت فزعاً لكل من سمعها ، وقد جاءوا للعلاج من تأثيرها وقد قدر لى أن أسمع عدداً من هذه الأشرطة وما رأيت فيها إلا حالات هستيرية كالتى سبق وصفها تتحدث تحت تأثير إيحاءات المعالج .
يقول الشيبخ الشعراوى ( 1990 ) : ويريد الله سبحانه وتعالى أن يزيل خوفنا من أن يصيبنا ضرر من هذه القوى التى ترانا ولا نراها ، فيطمئننا بأنه جل جلاله يحفظنا ويرعانا .. لاينام ولايغفل .. قيوم على كونه ..أى قائم عليه فى كل ثانية .. فيقول جل جلاله :
" الله لا إله إلا هو الحى القيوم لاتأخذه سنة ولا نوم " ( البقرة 255 )
ثم يريد الحق تبارك وتعالى أن يزيد اطمئناننا .. فيقول لنا أنه عز وجل هو خالق السماوات والأرض .. ولذلك فإنه لايوجد من خلقه من يستطيع أن يخرج عن مشيئته .. فالمخلوق خاضع خضوعا تاما للقوانين التى أرادها له الخالق .. لايمكنه أن يتمرد عليها .. وذلك حتى لانخشى أن يتمرد مخلوق من مخلوقات الله ويفعل شيئا لم يأذن له به خالقه .. فيقول جل جلاله :
" له مافى السماوات وما فى الأرض " ( البقرة255 )
ونظراً لكثرة الممارسات المؤسفة والخاطئة فى هذا المجال فقد أعلن معظم الأطباء استنكارهم لما يحدث وامتد الاستنكار ليشمل أمورا حقيقية ثابته فى الكتاب والسنة ولكنها أحيطت بأخطاء المشعوذين ومبالغات العامة وأوهامهم .
والجن يمكن أن يؤثر فى الانسان بطريقة لانعلم كيفيتها ( وهذا ليس قاصرا على الجن بل إن كل شئ فى الكون يؤثر ويتأثر بالأشياء الأخرى ) فقد قال الله تعالى :- }الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ المَسِّ{( البقره 275 )
قال ابن كثير رحمه الله فى تفسير هذه الآية ما نصه : - أى لا يقومون من قبورهم يوم القيامة إلا كما يقوم المصروع هاله صرعه وتخبط الشيطان له وذلك أنه يقوم قياما منكراً .وقال ابن عباس رضى الله عنهما فى تفسير هذه الآية : آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنوناً يخنق .
وقال الرسول e فى الحديث الصحيح الذى رواه الشيخان عن صفية رضى الله عنها :- (ان الشيطان يجرى من ابن آدم مجرى الدم) .
إذن هذه النصوص تدل على إمكانية تأثير الشيطان فى الإنسان مع إعطاء صورة الجنون أو اضطراب الحركة والتصرف .
ولكن مدعى العلم بأسرار الجن بالغوا فى هذا الأمر فادعوا أن كل الأمراض هى مس من الجن أو هى تأثير سحر ليبتزوا المرضى المساكين وخاصة أصحاب الأمراض المزمنة الذين يتلمسون الشفاء فى أى مكان وبأية طريقة وهكذا انتشرت العرافة والكهانة بصورة جديدة تخفى نفسها خلف آيات من كتاب الله يقرؤها هؤلاء حتى يظلون فى حمايتها وتزداد قوة تأثيرهم فى العامة .
وعلى الجانب الآخر – كما ذكرنا - بالغ الأطباء فى استنكار ما يحدث وإنكار تأثير الجن والسحر والحسد بالكلية واللوذ بمكتسبات الطب التى كشفت الكثير من الغموض وقد اعتقد الكثيرون منهم أنه لم يعد هناك شىء بعيد عن البحث والتجربة الملموسة .
والواقع الحقيقى غير ذلك فمازلت أسباب كثير من الأمراض النفسية فى مجال النظريات التى تتغير من وقت لآخر ومازالت هناك مناطق شديدة الغموض حيث تم وصف الكثير من مظاهر الأمراض ولكن بقيت المسببات فى حاجة إلى بحث طويل .
وحين أقول هذا لا أبرر الخوض فى مبالغات تأثير الجن والاستكانة السلبية لهذه القوى الخفية بديلا عن البحث الجاد عن أسباب يمكن معالجتها بالوسائل العلمية المتاحة وإنما أرجو أن يتخلى الطرفان المتناقضان عن موقفهما المتطرف لتكون الحركة واعية وموضوعية مع الاعتراف والالتزام والاعتقاد بما ورد من آيات وأحاديث صحيحة فى هذا الشأن دون تقليل أو تهويل .
لكل داء دواء بعيداً عن التعميم الخاطئ فى التشخيص والعلاج :
فى الصحيحين عن عطاء عن أبى هريرة قال : قال رسول الله e : (ما أنزل الله من داء إلا أنزل له شفاء)
وروى مسلم فى صحيحه من حديث أبى الزبير عن جابر بن عبد الله عن النبى e أنه قال : (لكل داء دواء فإذا أصيب دواء الداء برأ بإذن الله عز وجل) ، ففى ذلك الحديث الأخير علق الرسول e البرء بموافقة الداء للدواء فإنه لا شئ من المخلوقات إلا له ضد وهذا يؤكد فكرة نوعية وتخصيص العلاجات للأمراض المختلفة فليست كل الأمراض تعالج بنفس الطريقة كما يفعل بعض المعالجين الشعبيين فيعطون نفس المادة لكل الأمراض ويتبعون نفس الطريقة فى كل الحالات وهذا تعميم خاطئ دحضه الرسول بحديثه .
وفى قوله e (أنتم أعلم بأمور دنياكم) توجيه منه إلى إعطاء كل شئ لمن تخصصوا فيه وعلموه بالدراسة والتجربة والتمحيص .
وفى المسند (والسنن) عن أبى خزامة قال : قلت يا رسول الله : أرأيت رقى نسترقيها ، ودواء نتداوى به ، وتقاة نتقيها ، هل ترد من قدر الله شيئاً ؟ فقال : (هى من قدر الله ) .
فقد تضمنت هذه الأحاديث إثبات الأسباب والمسببات وإبطال قول من أنكرها .
يقول ابن القيم فى الطب النبوى : (وفى الأحاديث الصحيحة الأمر بالتداوى وأنه لا ينافى التوكل ، كما لا ينافيه دفع داء الجوع والعطش والحر والبرد بأضدادها بل لا تتم حقيقة التوحيد إلا بمباشرة الأسباب التي نصبها الله مقتضيات لمسبباتها قدرا وشرعا ، وأن تعطيلها يقدح في نفس التوكل ، كما يقدح في الأمر والحكمة ، ويضعفه من حيث يظن معطلها أن تركها أقوى في التوكل ، فإن تركها عجزا ينافي التوكل الذي حقيقته اعتماد القلب على الله في حصول ما ينفع العبد فى دينه ودنياه ودفع ما يضره في دينه ودنياه ، ولابد مع هذا الاعتماد من مباشرة الأسباب ، وإلا كان معطلاً للحكمة والشرع ، فلا يجعل العبد عجزه توكلاً ولا توكله عجزاً " .
وفي قوله e " لكل داء دواء تقوية لنفس المريض والطبيب ، وحث على طلب ذلك الدواء والتفتيش عليه ، فإن المريض إذا استشعرت نفسه أن لدائه دواءً يزيله ، تعلق قلبه بروح الرجاء ، وبردت عنده حرارة اليأس ، وانفتح له باب الرجاء وكذلك الطبيب إذا علم أن لهذا الداء دواء أمكنه طلبه والتفتيش عليه .
صرع الأبدان وصرع الأرواح :
قال ابن القيم في " الطب النبوي " صفحة 66 : " الصرع صرعان : صرع من الأرواح الخبيثة الأرضية ، وصرع من الأخلاط الرديئة والثاني هو الذي يتكلم فيه الأطباء في سببه وعلاجه ". ولكن ابن القيم رحمه الله لم يذكر كيفية التفريق بين نوعي الصرع ، وربما له العذر فى ذلك فلم تكن فى عهده وسائل تشخيصية مثل رسم المخ الكهربائى ، ولم يكن موضوع الأعراض الإنشقاقية والتحولية (الهستيرية) معروفا بدقة فى ذلك الوقت ، ولكن يكفيه فخرا أنه استنبط أن ثمة نوعين مختلفين من تلك النوبات التى تصيب الإنسان .
أما الروايات التي ذكرت في مثل هذه الحالات فإما أنها اعتمدت على وحي من الله أو بصيرة شخصية خاصة .
فقد جاء في حديث يعلى بن مرة عن النبي e أنه أتته امرأة بابن لها قد أصابه لمم فقال له النبي :
" أخرج عدو الله أنا رسول الله " . قال : فبرأ ( أخرجه الإمام أحمد 4/170 ، 171 ، 172 ) .
ووردت روايات أخرى عن إخراج الجن على يد ابن تيمية كما ذكر ابن القيم في الطب النبوي صفحة 768 وهذه قد اعتمدت على بصيرة ابن تيمية الخاصة وقوة إيمانه وتقواه .
ومع هذا لم يثبت عن الرسول e أنه عالج هذه الحالة بالضرب أو الخنق وإنما ثبت العلاج بالضرب عن ابن تيمية فقط كما ذكر ابن القيم . ولم يثبت فى التاريخ الإسلامى أن عرب الجزيرة توافدوا بالمئات أو الألاف طلبا للعلاج بالرقيا على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم أو صحابته الكرام ، وإنما كانوا يتوافدون لمعرفة الإسلام كدين ينظم حياتهم الدنيوية والأخروية . أما فى عصور التدهور الحضارى فقد تمادى الكثيرون ممن يعلمون وممن لا يعلمون في هذا الأمر فاعتبروا كل الأمراض تلبس جن واعتبروا أنفع الوسائل هي الضرب المبرح أو الخنق أو الكي أو إيذاء المريض بحجة إيذاء الجن المتلبس وقد حدثت مآس كثيرة نقابلها كل يوم وأدت في بعض الأحيان إلى وفاة بعض المرضى كما حدث في مصر لامرأة ضربوها حتى ماتت وشاب آخر مات تحت وطأة الضرب بحجة إخراج الجن ، إضافة الى انتهاك حرمات الكثير من النساء وهتك أعراضهن على أيدى مدعى العلاج بالقرآن والقرآن منهم ومن أفعالهم براء .
والسؤال الهام هنا : من يستطيع الآن أن يفرق بين الحالة التي تلبسها الجن ( كم يزعم المعالجون الشعبيون ) وبين الحالات المرضية الأخرى ؟ والجواب هنا لا أظن أنه من السهولة بمكان .
ومن خلال عملي في مجال الطب النفسي رأيت مدعى إخراج الجن يعالجون حالات مرضية نفسية وأحياناً عضوية معروف أسبابها ولها تسلسل سببي منطقي صريح في حياة المريض وليس فيها غموض تلبس الجن وهم مع ذلك يصرون على تلبسها بالجن وهذه الحالات ساءت كثيرا بسبب ما بث في عقولها من خيالات وصاروا يعانون من اضطرابات نفسية شديدة نظرا لخوفهم الشديد من هذه القوى الخفية التي تحاربهم ونظرا للجو الأسطوري المخيف الذي يعيشونه عند هؤلاء المعالجين .
السحر :
اان هناك قوى خفية فى الكون ( كما ذكرنا آنفا ) ، وأن من هذه القوى السحر ، وأن السحر ليس حقيقة ولكنه تخيل لشئ غير واقع ، وأن الذى يسحر هو أعين الناس ، وأن السحر يدخل الرهبة فى النفوس ، ويجعلها تستسلم لما يريده الساحر ، وأن الساحر يستعين بقوى بحكم عناصر خلقها أكبر من قوة الانسان وهم شياطين الجن
( الشعراوى 1990 ) ، وذلك مصداقا لقوله تعالى : " سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم "
( الأعراف 116 ) .
والسحر قد ورد ذكره فى القرآن الكريم فى أكثر من موضع نذكر منها قوله تعالى : " واتبعوا ماتتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت . وما يعلمان من أحد حتى يقولا انما نحن فتنة فلا تكفر . فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه . وما هم بضارين به من أحد الابإذن الله . ويتعلمون مايضرهم ولا ينفعهم . ولقد علموا لمن اشتراه ماله فى الآخرة من خلاق . ولبئس ماشروا به أنفسهم لوكانوا يعلمون " (البقره102).
ويتضح من هذه الآيات أن السحر شئ خفى يتعلمه البشر من الشياطين ، وهو يمكن أن يؤثر فى السلوك
( يفرقون به بين المرء وزوجه ) ، ولكن هذا التأثير معلق بمشيئة الله ( وماهم بضارين به من أحد الابإذن الله ) ، وأن هذا السحر ليس فيه نفع بل كله ضرر ( ويتعلمون مايضرهم ولاينفعهم ) وهذا الأمر واضح جدا فى الواقع حيث نرى أن الساحر رغم مايستعين به من قوى شيطانية خفية الا أنه يعيش حياة ملؤها البؤس والشقاء ولايستطيع دفع هذا عن نفسه رغم ما يدعيه من قدرة على التأثير فى حياة الناس ، وهو يحتاج لما فى يد الناس من مال لكى يعيش .
وأول شئ جاء فى القرآن الكريم هو " يفرقون بين المرء وزوجه " ، وهذه التفرقة يمكن أن تتم بأمور مادية .. ألايوجد فى الحياة العادية من البشر - الذين لايراعون منهج الله – من ينقل كلمة هنا وكلمة هناك فيفرق بين الزوجين ؟ .. يوجد ونحن نشهد بذلك .. فاذا كان ذلك يحدث فى الأمور المادية فإنه يحدث أيضا فى الأمور الغيبية .والحق سبحانه وتعالى له أمور غيبية لايمكن أن نقول فيها كيف ؟ .. فهو سبحانه وتعالى أخبرنا أن التفرقة بين المرء وزوجه يمكن أن تحدث بالسحر ، ولكنه لم يبين لنا ماهى الطرق التى تحدث بها .. كما أخبرنا الحق جل جلاله أن الضر يحدث بالسحر ، ولكنه لم يخبرنا سبحانه عن كيفية حدوثه (الشعراوى 1990 ) .
" روى البخارى فى صحيحه 10/192 .. ومسلم فى صحيحه 4/1719 عن عائشة رضى الله عنها قالت : سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم يهودى من يهود بنى زريق .. يقال له لبيد بن الأعصم .. قالت : حتى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخيل اليه أنه يفعل الشئ وما يفعله .. حتى إذا كان ذات يوم _ أو ذات ليلة – دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم .. ثم دعا .. ثم دعا .. ثم قال : ياعائشة .. أشعرت أن الله أفتانى فيما استفتيته فيه .. جاءنى رجلان فقعد أحدهما عند رأسى والآخر عند رجلى .. فقال الذى عند رأسى للذى عند رجلى .. أو الذى عند رجلى للذى عند رأسى : ما وجع الرجل ؟ .. قال مطبوب .. أى مسحور .. قال : من طبه ؟ قال : لبيد بن الأعصم . قال : فى أى شئ ؟ قال : فى مشط ومشاطة وجف طلعة ذكر .. قال : فأين هو ؟ قال : فى بئر ذى أروان .. قالت : فأتاها رسول الله صلى الله عليه وسلم فى أناس من أصحابه .. ثم قال ياعائشة : والله لكأن ماءها نقاعة الحناء .. ولكأن نخلها رؤس الشياطين .. قالت : فقلت يارسول الله أفلاأحرقته ؟ .. قال : لا .. أما أنا فقد عافانى الله وكرهت أن أثير على الناس شرا .. فأمرت بها فدفنت " .
هذا الحديث قد أثار جدلا كثيرا بين العلماء وبنيت عليه الكثير من الممارسات ، وهنا نقول باختصار :
" كون محمد صلى الله عليه وسلم سحره اليهود .. هذا ليس اتهاما ضده .. ولكنه تحد للإنس والجان بأن يفعلوا أقصى مايستطيعون ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم .. والله جل جلاله سينصره عليهم .. ولو أنهم لم يستعينوا بالسحر والجان لقالو لواستعنا بالسحر لكانت لنا الغلبة عليه .. ولو أن الحق سبحانه وتعالى أبطل السحر قبل أن يقع .. لقالوا لو أن السحر لم يبطل لكان لنا معه شأن آخر .. ولكن الله سبحانه وتعالى شاء أن يستعان عليه بالسحر والجان .. وأن تسحر عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم – كما سحرت عينا موسى من قبل – ثم يدله الله جل جلاله على مكان السحر ليبطله . على أن السحر الذى تعرض له رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم كان من نفس نوع السحر الذى تعرض له موسى عليه السلام وهو سحر التخيل الذى يؤثر على العين وحدها ولايؤثر على العقل أو القلب ولاباقى أعضاء الجسم ..وإن كان الله قد أعطى بعض خلقه القدرة على الاستعانة بالشياطين فى إيذاء البشر .. فإنه قد احتفظ لنفسه سبحانه وتعالى بإذن الضر .. وطلب منا أن نستعيذ به من السحر " ( الشعراوى 1990 ) . يقول تعالى :
" وماهم بضارين به من أحد إلا بإذن الله " ( البقرة 102 )
وهذا الحديث – كما ذكرنا - قد بنى عليه كثير من الناس أفعالا لا يقرها الله ورسوله فأصبح هناك قوم وظيفتهم عمل السحر وفك السحر وزاد روادهم من العامة وبعض الخاصة بحجة أن السحر ورد في القرآن وورد في الحديث وزاد من خبثهم أنهم يخرجون ما يدعون أنه سحرا محاط ببقايا شعر لكي يشبه ما ورد في الحديث .
ولو تأملنا الأمر جليا لوجدنا أن الرسول e حين سحر توجه إلى ربه ولم يتوجه إلى عراف فدله الله عليه أي أن المسألة نوع من الوحي والكشف الخاص بالرسول e وقد نهانا e في أحاديث صريحة ( سنذكرها لاحقا) عن الوقوع في خطأ العرافة والكهانة طلباً لفك السحر أو دفع الحسد أو إخراج الجن .
وقد ورد السحر فى كتاب الكبائر للامام الحافظ شمس الدين الذهبى على أنه الكبيرة الثالثة ( بعد الشرك بالله وقتل النفس ) . وعن على ابن أبى طالب رضى الله عنه قال : " الكاهن والساحر كافر " ( الكاهن الذى يدعى معرفة الغيب ، والساحر يدعى التأثير فى الأحداث وتغيير القدر ، وكل هذه أباطيل ) ( الذهبى 673-748هجرية ) . وعن أبى موسى رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ثلاثة لايدخلون الجنة : مدمن خمر ، وقاطع رحم ، ومصدق بسحر " ( رواه الامام أحمد فى مسنده ) .
وعن بجالة بن عبدة أنه قال : " أتانا كتاب عمر رضى الله عنه قبل موته بسنة أن اقتلوا كل ساحر وساحرة " ( رواه البخارى ) ، فالسحرة يشيعون الفتنة والهلع فى نفوس الناس كما أنهم يشيعون التفكير الخرافى الذى جاء الاسلام لمحاربته .
ويقول الشيخ الشعراوى فى حكم السحر : " إن الذى يستعين بالسحر انما يستعين بقوة أكبر من قوة الانسان .. واستعانته به تحدث خللا فى المجتمع البشرى .. تماما كالذى يملك مسدسا وسط مجموعةمن الذين لايملكون سلاحا .. فان قوته تغريه على الظلم وعلى البطش . ولذلك فقد حرم الله الإستعانة بالسحر ، واعتبره نوعا من الكفر ، لأن الساحر يعتقد أنه بذاته وعلمه يستطيع أن يسيطر على غيره فى الكون "
( الشعراوى 1990 ) .
وعن أبى هريرة رضى الله عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال : " اجتنبوا السبع الموبقات " قالوا يارسول الله وما هن ؟ قال : " الشرك بالله ، والسحر ، وقتل النفس التى حرم الله الابالحق ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتولى يوم الزحف ، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات " ( متفق عليه ) . أنظر كيف جاء السحر بعد الشرك مباشرة لما فيه من الحرمة الشديدة ، فلا يتعلم السحر مؤمن ، وقد جعل الله السحر فتنة لمن أراد أن يتبدل الكفر بالايمان وما له فى الآخرة من خلاق ( موزه 1990 ) .
وربما يسأل سائل : اذا كان السحر يحمل كل هذا الشر فما هى حكمة وجوده ؟ .. والاجابة هى أن الله سبحانه وتعالى قد شاءت حكمته أن يبتلى الانسان بالخير والشر مصداقا لقوله تعالى : " ونبلوكم بالشر والخير فتنة " ( الأنبياء 35 ) ، ومن سنة الله فى الكون أن يجعل قوى الشر تقابلها قوى الخير لكى يختار الانسان من بينها ثم يحاسب على اختياره ، إضافة إلى أن وجود هذه القوة الخفية التى لايملك الإنسان دفعها عن نفسه بنفسه يجعله يلجأ الى ربه مستعيذا منها .
الحسد :
ذكر الحسد في سورة الفلق :- ) قل أعوذ برب الفلق من شر ما خلق ومن شر غاسق إذا وقب ومن شر النفاثات في العقد ومن شر حاسد إذا حسد ( .
والحسد هو تمنى زوال النعمة .. دون أن يكون الحاسد مستفيدا مما سيحدث .
" والحسد مقطوع به ، وصحيح مؤكد الوجود ، لأنه ورد فى القرآن الكريم .. وهو شر من قوى الغيب التى تضر الإنسان .. ولذلك طلب منا الحق سبحانه وتعالى أن نستعيذ به جل جلاله : ( ومن شر حاسد إذا حسد ) ....وإذا كنا لانعرف شيئا عن الحسد .. فإننا نقول إن الشئ كلما كان دقيقا لاتراه العين ..كان أثره وفعله أكبر .. وكان عنيفا فى عمله ، فأدق الجراثيم مثلا هى أعنفها فى التأثير على الجسم .. وهى أقواها فى مققاومة الادواء .. وإذا أردنا أن نقرب الصورة ةإلى الأذهان نقول بأن أشعة الليزر التى تم اكتشافها فى العصر الحديث تستخدم فى العمليات الجراحية الدقيقة وفى أشياء أخرى كثيرة دون أن يراها المريض أو يتعرف عليها وهى تدخل الى جسده .. إذن هناك شئ خفى عن العين يستطيع أن يدخل الى الجسد .. ويفعل فيه أشياء أكثر من مشرط الجراح . ماالذى يدريك أن عين الحاسد تخرج منها أشعة أشد فتكا من أشعة الليزر ؟ " ( الشعراوى 1990 ) .
النهى عن إتيان الكهان والمنجمين والعرافين وأصحاب الرمل وقارئى الفنجان وغيرهم :
إن من حكمة الله فى الكون أن تكون هناك قوى خفية لاندركها ومع ذلك يمكن أن يكون لها تأثير على الإنسان بشكل لانعلم كيفيته ، وهذا التأثير لايحدث إلا بمشيئة الله سبحانه وتعالى ، ومادام الأمر كذلك كان من المنطقى أن نلجأ الى الله تعالى مباشرة ودون وسطاء للإستعاذة به من تأثير هذه القوى الخفية ، وهو سبحانه قد حثنا على ذلك فى سورتى الفلق والناس ( المعوذتين ) ، ولكن الذى حدث عند كثير من الناس أنهم حين اعتقدوا فى وجود هذه القوى بالغوا فى تأثيرها واستقر فى وعيهم خوف هائل منها وراحوا يطلبون العون عليها من العرافين والمنجمين وضاربى الرمل وضاربى الودع وقارئى الفنجان فحدث انحراف فى التصور والإعتقاد واللجوء الى غير الله وإضفاء قدرة وربما قداسة على هذه القوى الخفية ومن يظنون أنهم يدفعون تأثيرها . ولما كان هذا أمر يمس صلب العقيدة لذلك جاءت النصوص الدينية الصريحة تصحح الإتجاه وتأخذ بيد الناس نحو الله الذى يملك كل شئ ولا يخرج شئ فى الكون عن مشيئته :
عن عائشة رضى الله عنها قالت : سأل أناس رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكهان ، فقال : " ليسوا بشئ " ، فقالوا : يارسول الله إنهم يحدثونا أحيانا بشئ فيكون حقا ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" تلك الكلمة من الحق يخطفها الجنى فيقرها فى أذن وليه ، فيخلطون معها مائة كذبة " ( متفق عليه ) .
وعن صفية بنت أبى عبيد ، عن بعض أزواج النبى صلى الله عليه وسلم ورضى الله عنها عن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " من أتى عرافا فسأله عن شئ فصدقه ، لم تقبل له صلاة أربعين يوما " ( رواه مسلم ).
وعن ابن عباس رضى الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من اقتبس علما من النجوم ، اقتبس شعبة من السحر زاد مازاد " ( رواه أبو داوود بإسناد صحيح ).
العلاج بالتمائم والرقى :
سأل أحد القراء فضيلة الدكتور يوسف القرضاوى عن علاج زوجته عند أحد المعالجين بالقراءة والتمائم ، فرد عليه فضيلته قائلا ( القرضاوى 1418ه-1998م) : لقد جاءت الأحاديث تحذر المسلمين من مثل هذه الأمور وتنهى أن يعتمدوا فى علاجهم وتداويهم على مثل هذه التمائم ، قد سماها الإسلام تمائم ، وهى أشياء كانوا يعلقونها على الأولاد ونحو ذلك لتدفع الجن أو تدفع العين أو ماأشبه ذلك ، فقال النبى صلى الله عليه وسلم : " إن الرقى والتمائم والتولة شرك " ، والرقى جمع رقية وهى أن يرقى الشخص ويعزم عليه بكلام لايفهمه .. فهذه الرقى ممنوعة ..إلاماكان منهلا مأثورا عن النبى صلى الله عليه وسلم مثل : " اللهم رب الناس أذهب الباس ، اشف وأنت الشافى ، لاشفاء إلاشفاؤك ، شفاء لايغادر سقما " ( رواه أحمد وأبوداوود والبيهقى والحاكم وصححه وأقره الذهبى ) . والتولة بوزن عنبة لون من السحر تلجأ اليه المرأة تتحبب به الى زوجها فيما تزعم .
ويستطرد فضيلته قائلا : " وكان الواجب على هذا الأخ السائل أن يعرض زوجته على طبيب ، فإما أن يعالجها وإما أن يحيلها على طبيب أخص منه .. وقد قال صلى الله عليه وسلم : " تداووا عباد الله ، فإن الله تعالى لم يضع داء إلا وضع له دواء .. " ( رواه أحمد وأصحاب السنن وابن حبان والحاكم وقال الترمذى حسن صحيح ) . وجاء فى صحيح البخارى عنه عليه الصلاة والسلام : " إنما الشفاء فى ثلاثة : شربة عسل أو شرطة محجم ، أو كى بنار " . فلم يجعل الشفاء فى التمائم ولا فى القراءة ولا فى نحو ذلك ، وإنما جعلها فى الأمور الطبيعية وهى جوامع الطب : مايتناول عن طريق الفم ، ومثله الآن الدواء ، وشرطة المحجم : العمليات الجراحية ، والكى ، ومثله الآن الجلسات الكهربائية ، فكل هذا من الطب الذى جاء به الإسلام "
( القرضاوى 1418ه-1998م ) .
اختيار الطبيب الحاذق :
أمرنا رسول الله e بالبحث عن أحذق الأطباء للعلاج فقد ذكر مالك في " موطئه " عن زيد بن أسلم أن رجلاً في زمان رسول الله e أصابه جرح فاحتقن الجرح الدم وإن الرجل دعا رجلين من بني أنمار ، فنظر إليه فزعما أن رسول الله e قال لهما : " أيكما أطب "؟ فقال : أو في الطب خير يا رسول الله ؟ فقال : " أنزل الدواء الذي أنزل الداء " ( الموطأ 4/328 بشرح الزرقاني ).
وقد روى عمرو بن دينار عن هلال بن يساف قال : دخل رسول الله e على مريض يعوده فقال : " أرسلوا إلى طبيب " فقال قائل : وأنت تقول ذلك يا رسول الله ؟ قال : " نعم إن الله عز وجل لم ينزل داء إلا أنزل له دواء ".
وقد شدد الرسول في عقوبة من يمارس الطب بدون علم كاف به وحمله دية الخطأ في حديثه الذي رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله e : " من تطبب ولم يعلم منه الطب قبل ذلك فهو ضامن " أي متحمل الدية ، وكم من الأخطاء يرتكبها مدعو الطب دون حساب .
مخاطر العلاج الشعبى المتستر بالرموز شبه الدينية :
1 – الغموض الذى يحيط بالعملية العلاجية برمتها ، ونتيجة لهذا الغموض فإن المريض يلقى بنفسه فى المجهول ، وكل احتمالات الفشل أو النجاح قائمة ، والمسألة أشبه بمقامرة بلا أى ضمانات . وهذا الغموض يجعل خبرة المعالج الشعبى غير قابلة للنقل إلا بشروط سرية خاصة تعمل تحت الأرض .
2 – السلبية والاعتمادية من جانب المريض وذويه ، فليس مطلوبا منهم فعل شئ ذا بال إلا الاستسلام للمعالج الشعبى وتوجيهاته الغامضة .
3 – التلويح بالحل السحري : إن كثيراً من المعالجين الشعبيين يلوحون للمريض وأسرته بإمكان حل مشاكلهم بطريقة سحرية لا تتطلب الكثير من الجهد من المريض أو من أهله ، وهذا ربما يكون أحد العوامل التي تفسر إقبال الناس على العلاج الشعبي الذي يعد ( ولا يفي ) بالحل السحري السريع دون استفسار أو تقصي أو شرح أو بذل جهد ، وإنما كل المطلوب تناول بعض السوائل أو لبس بعض التمائم أو تكرار بعض العبارات غير المفهومة ، وهذا يؤدي إلى كثير من المشاكل المعرفية والسلوكية الخطيرة مثل نشر التفكير السحري بين الناس ، وتوقع الحلول السحرية لمشاكل يومية واقعية كانت تحتاج لبذل جهد حقيقي من المريض وأسرته ومجتمعه .
4- سهولة تغلغل الدجالين والمشعوذين في مجال العلاج الشعبي نظراً لعدم وجود ضوابط تحدد ماهية العلاج الشعبي ؟ ، ومن هو الذي يحق له ممارسته ؟ ومن الذي سيعطيه ذلك الحق ؟ ، ويحاسبه إذا أخطأ ؟ ، ويسحب منه ترخيص العمل إذا خرج عن حدود الممارسة .
5- عدم وجود قوانين ونظم وأخلاقيات تحكم ممارسة العلاج الشعبي .
6- استغلال بعض اللافتات الدينية لتغطية ممارسات خاطئة ليس لها علاقة من قريب أو بعيد بالدين ، وهذا يؤدي إلى خلط مفاهيم خاطئة بمفاهيم دينية ، فيؤدي إلى اضطراب في تصورات العامة واعتفاداتهم .
7- احتمالات تقديس المعالج إذا حقق نجاحاً ملحوظاً في بعض الحالات ، وهذا ربما يؤدي بالمريض وأهله إلى التعلق بغير الله . وقد سئل الشيخ محمد بن صالح العثيمين : هل يمكن أن يؤدي العلاج عند المقرئين إلى نوع من التقديس لهم ، وكيف يمكن تفادي ذلك ؟ .. فأجاب فضيلته قائلاً : " هذا يختلف باختلاف الناس ، فمن الناس من يقدس من أسدى له خيراً ، حتى ولو كان أمراً دنيوياً ، ومنهم من لا يقدسه ولكنه يرى أن له معروفاً عليه لا يكافئه إلا بقضاء حاجه . لكن إذا كان الشفاء بالقراءة الشرعية فإن التقديس للإنسان أكثر توقعاً مما لو كان بغير ذلك ، لأنه ربما يعتقد أن لهذا الرجل منزلة عند الله عز وجل وأنه بسبب هذه المنزلة فقد كتب الله له الشفاء على يديه ، لكن الواجب أن يعلم الإنسان أن القراءة هي سبب للشفاء والدواء الذي حصل به الشفاء وإنما هو سبب ، والله سبحانه وتعالى هو المسبب " .
8- استخدام بعض الوسائل التي تضر المريض أو ربما تودي بحياته مثل الخنق والضرب والحرق والصعق بالكهرباء من قبل بعض المعالجين . يقول الشيخ عبد العزيز الحمدان : " إن هناك أساليب خاطئة يتبعها البعض مثل حرق أيدي النساء بالنار أو بجهاز كهربي ، أو الخنق والضرب بحجة إخراج الجني من الدم . وإني أعجب من هذه الأساليب ، فهل هذا نقص في الاعتقاد بأن كلام الله ليس كاف في العلاج ، أم هي رغبة في التأثير على ذلك الجني بالرهبة والضرب ، وهنا أقول : إنه يكفي كلام الله رهبة ، فلو نزل على جبل لزلزله وتصدع "
9- ابتزاز أموال الناس تحت أسماء مختلفة كالتبرعات أو النذور أو دفع ثمن الماء والزيت مضاعفاً .. إلخ .
10- التعميم ، بحيث يعتبر كل مريض ممسوس أو معيون أو مسحور ( أو على الأقل أغلب المرضى ) ، وتمارس معهم نفس الطريقة في العلاج . وهذا عيب كبير يمحو الفوارق الفردية ، ويهمل الاحتياجات الخاصة لكل حالة . وكنتيجة لهذا التعميم نجد بعض المعالجين الشعبيين يعالجون مجاميع غفيرة بالميكروفون في مكان واحد .
11- القفز إلى استنتاجات خطيرة بلا دليل مقنع ، فمثلاً بعض المعالجين يقول لك إن هذا الشخص لديه مس من الجن أو عين أو سحر دون أن يكون لديه دليل واضح على ذلك ، أو يسوق أدلة تحدث لأغلب الناس كالأحلام المزعجة والصداع والضيق ... إلخ ، أو يعتمد على أن هذا الشخص يشكو من حالة غريبة احتار الطب فيها .. مع العلم بأن كل الأمراض المعروفة حالياً احتار الطب فيها لفترة وبعد ذلك عرف أسبابها وعلاجها ، إذن فليست حيرة الأطباء أو فشلهم دليلاً على أن الحالة بها جن أو عين أو سحر . يقول الشيخ علي العامري ( وهو من أشهر المعالجين بالقراءة سابقا وقد توقف عن ذلك بعد أن تبين له الحق ) : " أنا أول ما دخلت في هذا الأمر كان كل من يأتيني ويسقط ويصيح أتصور أن هذا جني ، لأنه ليست لدي خلفية في الموضوع لكن اثني عشر عاماً كفيلة بأن تعطيني دراسة وافية لهذا الموضوع ، وعرفت بعد هذه التجربة أنه ليس هناك أي شيطان يتلبس الإنسان بهذه الطريقة وأن كل من يزعم ذلك كاذب إلا في حالات معينة ".
ما الحل ؟
الجواب يمكن إيضاحه في النقاط التالية :-
أن الجن والسحر والحسد قوى خفية ثابتة بالكتاب والسنة ولا يعلم كنهها إلا الله سبحانه وتعالى ، وهى لاتضر ولاتنفع إلا بإذن الله ولحكمة يعلمها سبحانه واتقاؤها يتم باللجوء اليه وحده دون وساطة من كهان أو عرافين أو دجالين مهما اختلفت صفاتهم ومهما تستروا خلف لافتات دينية أو شبه دينية (2) إن ادعاء المعالجين الشعبيين ( مهما اختلفت أسماؤهم ) بأن حالات معينة بها مس من الجن أوتأثير سحر أو حسد إنما هو نوع من الظن الذى لايقوم على دليل من العلم التجريبى أو من الشرع ، وهو تجرؤ على الغيب الذى اختص الله سبحانه وتعالى وحده بمعرفته .
(3) إن الممارس لمهنة الطب النفسي يلاحظ أن معظم الحالات التي تتردد للعلاج لها مسار مرضي محدد وتسلسل منطقي واضح واستجابة معقولة للأدوية المتاحة رغم قصورها . وإذا كانت هناك نسبة من الأمراض النفسية ما زالت أسبابها الحقيقية غامضة فهذا يدعونا إلى البحث والدراسة للوصول لأسبابها وليس أضر علينا من إلقاء كل الأمراض على تلبس الجن أو السحر أو الحسد لأن ذلك يوقف حركة الاجتهاد والبحث البشري ولو كان الحال هكذا لما اكتشف علاج مرض واحد . وهذا الإجتهاد الإيجابى نوع من السعى والأخذ بالأسباب الذى حث عليه صحيح الدين .
(4) من الصعوبة على أي شخص أن يجزم بأن حالة معينة هي مس للجن أو سحر أو حسد ولم يثبت عن الرسول e أنه عالج كل الحالات على أنها مس جن أو سحر أو حسد ولكنه عالج بكل الوسائل المتاحة فى عصره ، فقد عالج بعض الحالات بالعسل وعالج أخرى بالكي وعالج بالحمية وعالج بحبة البركة وعالج بالحناء وعالج بالعصابة للرأس ... إلخ. وأمر صحابته بالذهاب للطبيب وهو رسول الله ودعاؤه مستجاب ولكنه يعلمنا الأخذ بالأسباب ، إذن فالتعميم والتعتيم الذي يمارسه بعض المعالجين الآن ما هو إلا جهل بالدين أو الطب أو كلاهما معاً .
(5) أن الرسول e نهى عن إتيان الكهان والعرافين ونهى عن تصديقهم ، وما يفعله الكثيرون من المعالجين البدائيين اليوم لا يخرج عن كونه " عرافة " أو " كهانة " لأنهم يجزمون بتلبيس الجن والجن غيب عنا والجزم بالغيب عرافة ( حتى ولو تستروا بشعارات ورموز دينية أو شبه دينية ) والمريض المسكين حين يذهب إلى أحدهم فهو يرمي نفسه في المجهول .
(6) أن الاستعاذة من الجن ومن السحر ومن الحسد أمر بسيط علمنا إياه رسول الله e بقراءة المعوذتين وآية الكرسي وباقي أدعية الصباح والمساء وبتقوية العلاقة بين الإنسان وربه دون الحاجة إلى وسيط وهذه الأدعية يقرؤها الشخص المريض نفسه أيا كان نوع مرضه أو يقرؤها عليه أحد أقاربه أو أصدقائه ولا يكون هناك شخص بذاته يتولى هذه المهمة ويتخذها وظيفة وإلا أصبحت كهانة صريحة .
(7) ليس هناك ما يمنع بل إنه من الضروري الجمع بين أخذ الدواء الذي يصرفه الطبيب المتخصص وبين الدعاء وقراءة القرآن والرقية الشرعية التي علمنا إياها رسول الله e فكل هذا من أمر الله أما الأخذ بشيء مع إهمال باقي الأشياء فهو من قبيل الإختزال ، فالإنسان جسد وروح ولا يمكن الفصل بينهما وللجسد
ما يفيده وللروح ما يلائمها .
الرقية الشرعية :
في صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري ، أن جبريل عليه السلام أتى النبي e فقال : يا محمد ! أشتكيت ؟ فقال : " نعم " ، فقال جبريل عليه السلام : " بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك من شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك باسم الله أرقيك " .
وهذه الرقية بصيغتها البسيطة يكفى أن يقرأها أحد الأقارب على المريض دون حاجة لتعريضه لممارسات الدجالين والمشعوذين ومدعى العلم الذين يوحون الى المريض ايحاءات شيطانية أو سحرية لايملكون عليها دليل إلا ظنونهم الخاصة . وحين يقرأ أحد افراد الأسرة الرقية على المريض واضعا يده على موضع الألم فإن فى ذلك رسالة حب وحنان ومودة تضاف الى بركة الرقية وتأثيرها الروحانى .
الخلاصة
لم أجد أجمل من كلمات فضيلة الشيخ الشعراوى ( رحمه الله ) لإيجاز هذا الموضوع :
" إذا كان ايماننا قويا بالله – واتجهنا اليه سبحانه وتعالى نستعيذ به – فانه جل جلاله يقينا شر هذا كله .. ولكن الذى يبقى فعل هذه الأشياء .. أننا لانلجأ الى الله جل جلاله .. ولكن إذا أصابنا ضرر فاننا نحاول أن نلجأ الى قدرات البشر ، فإذا أصيب الانسان بضرر السحر ، فإنه ينتقل من ساحر الى ساحر .. يحاول أن يبطل أثر السحر .. مع أنه لو اتجه الى الله تبارك وتعالى .. بقلب مخلص ..فإن السحر يبطل فعله . وكذلك الحسد .. نحن نحاول أن نلتجئ الى التمائم أو الأحجبة .. أو أشياء أخرى كالإستعانة بخرزة زرقاء أو غير ذلك . هذه التمائم كلها لاتضر ولاتنفع .. ولا تذهب حسدا ، ولاتزيل سحرا .. وهذا نوع من الشرك نحذر الناس منه .. لأن الفعل فى الكون كله لله سبحانه وتعالى وحده .. فلايوجد فعال لما يريد .. إلا الحق جل جلاله .. فإذا التجأنا لغير الله عز وجل .. نطلب منه الحماية أو إزالة الضر أو غير ذلك .. فإن هذا يكون نوعا من الشرك " ( الشعراوى 1990 ) .
الله تبارك وتعالى أمرنا فى كتابه العزيز .. أن نستعيذ به من كل هذا .. فقال جل جلاله :
" قل أعوذ برب القلق من شر ما خلق ومن شر غاسق إذا وقب ومن شر النفاثات فى العقد ومن شر حاسد إذا حسد " ( سورة الفلق )
وقوله سبحانه وتعالى :
" قل أعوذ برب الناس ملك الناس إله الناس من شر الوسواس الخناس الذى يوسوس فى صدور الناس من الجنة والناس " ( سورة الناس )
فنحن فى سورة الفلق نتجه الى الله ونستعين به فى الأمور التى لاإرادة لنا فيها .. ولانستطيع فيها دفع الضر عن أنفسنا .. وفى سورة الناس نتجه الى الله جل جلاله ونستعيذ به فى الأمور التى لنا فيها إرادة .. ولكننا نخاف أن نضعف أمامها ( الشعراوى 1990 ) .
والخلاصة كما يقول الشيخ الشعراوى : " أن السحر والحسد من القوى الخفية فى الكون .. ولكنها قوى موجودة .. والله سبحانه وتعالى أخبرنا بها .. وأن الله جل جلاله قد أعطانا فى قرآنه الكريم مايقينا شر هاتين القوتين .. وطلب منا أن نستعيذ به منهما .. وأن من يتلو المعوذتين - وهما سورتا الفلق والناس _ كل ليلة فإن الله يحرسه ويحميه . كما أن فى آية الكرسى حماية لمن يتلوها من كل سوء .. ولنعرف أننا يجب أن نتجه إلى الله سبحانه وتعالى ..لأنه وحده القادر على حفظنا وحمايتنا " .
وفي النهاية أرجو أن يكون الميزان قد اعتدل بين ما هو طب ملموس وبين ما هو غيب نعتقده بعيدا عن الخرافات والأوهام والدجل ، فالإسلام دين الحقيقة والوسطية والإعتدال .
والسؤال منهم ليس ترفا وإنما هم يريدون أن يحددوا جهة الإختصاص التى يلجأون إليها حتى يطمئنوا أن جهودهم وأموالهم لن تضيع سدى . فالمريض قد تحير بين طبيبه وشيخه فالطبيب يجزم بثقة بأن هذه حالة نفسية علاجها الدواء والشيخ المعالج يؤكد أن هذه حالة مس من الجن علاجها القراءة وإخراج الجن ووضع التمائم والتعاويذ . ويجد الطبيب نفسه فى موقف صعب فهو إن أنكر هذه الأشياء ( أو الممارسات العلاجية الشعبية المترتبة عليها ) فإنه يصطدم بمعتقدات المريض وأهله ، وإن وافق عليها فهو يثبت نوع من التفكير السحرى تضيع فى سراديبه الحقائق الطبية والدينية معا ، وفى كثير من الأحيان لايوجد لدى الطبيب الوقت الكافى لشرح وتوضيح تفاصيل هذه المسألة الشائكة لكل مريض يزوره .
وقد ثبت من بعض الأبحاث أن 70-80% من المرضى النفسيين فى المجتمع المصرى يترددون على المعالجين الشعبيين طلبا للعلاج ، وطبقا لتقارير المركز القومى للبحوث ( سبتمبر 2003 ) فإن فى مصر مليون مواطن يعتقد أنه ممسوس بالجن وثلاثمائة وخمسون ألف شخص على الأقل يعملون فى مجال العلاج بإخراج الجن ويطلق كل منهم على نفسه لقب معالج أو شيخ .
ولم يعد الأمر يقتصر على المستويات الشعبية الدنيا وإنما امتد ليشمل مستويات تعليمية عالية تصل الى مستوى أساتذة الجامعات خاصة حين يصطبغ العلاج الشعبى بالصبغة الدينية أو يتستر وراءها ( وهو غالبا مايفعل ذلك بحثا عن المصداقية واتقاءا للنقد ) . فقد بالغ الشرق فى الحديث عن عالم الجن والسحر والحسد بحيث اختلطت الحقيقة بأضعافها من الخيالات والأوهام والحكايات وعلق كل شىء فى عقول العامة ( ونسبة غير قليلة من الخاصة ) على الجن والسحر والحسد حتى إذا ذهب أحدهم لطبيب فإنه يذهب قبل ذلك أو أثناء ذلك أو بعد ذلك لمعالج يخلصه من السحر أو الجن أو كلاهما ، وأصبح هناك –كما رأينا - الكثيرون ممن يقومون بهذه الوظيفة . لذلك سنحاول ً إيضاح الصورة وتخليص الحقيقة من بين الخيالات والأوهام بعون من الله وتوفيقه .
الجن حقيقة شوهتها الشعوذة :
هذا الكون الذى نعيش فيه يحوى الكثير من الكائنات والقوى والعوالم بعضها نستطيع إدراكه بحواسنا أو بوسائل إدراكنا وبعضها نعجز عن إدراكه ، وهناك فرق بين وجود الشئ وإدراكه ففى زمن مضى لم نكن ندرك وجود الميكروبات أو الفيروسات ومع ذلك كانت موجودة وتؤثر فى حياتنا فى صورة أمراض نشعر بأعراضها مثل ارتفاع الحرارة والألم وغيره . هذا على مستوى الرؤية الميكروسكوبية الدقيقة ، فإذا انتقلنا الى مستوى الرؤية التلسكوبية عرفنا أننا أيضا فى الماضى كنا نجهل الكثير عن الكواكب والنجوم لأننا لم نكن نملك وسائل إدراكها ، وحين امتلكنا تلك الوسائل رأينا وأدركنا ما تسمح به هذه الوسائل وتيقنا أن هناك عوالم أخرى لانستطيع إدراكها بوسائلنا الحالية .
فإذا جاءت الأديان كلها وحدثتنا عن عوالم الجن والملائكة والعرش والكرسى والجنة والنار فلا يليق أن ننفى وجود هذه الأشياء لمجرد أننا لانستطيع إدراكها ، فهناك أشياء شاءت إرادة الله أن ندركها وننتفع بها ، وأشياء أخرى حجبت عن إدراكنا لحكمة يعلمها الله . يقول تعالى :
" وعنده مفاتح الغيب لايعلمها إلاهو ويعلم مافى البر والبحر . وماتسقط من ورقة إلايعلمها ولاحبة فى ظلمات الأرض ولارطب ولايابس إلا فى كتاب مبين " ( الأنعام 59 ) .
إذن هناك قوى خير ممثلة فى الملائكة لها تأثير فى حياتنا على الرغم من عدم إدراكنا إياها ، وقوى شر ممثلة فى الشياطين وهم مردة الجن ، وهناك سورة كاملة فى القرآن الكريم عن الجن تبين طبيعة خلقهم ووظيفتهم والقوانين التى تحكمهم ، ومن ضمن هذه القوانين أنهم يروننا ولانراهم " إنه يراكم هو وقبيله من حيث لاترونهم " ( الأعراف 27 ) ، إضافة الى قدرتهم الهائلة على الحركة والتأثير التى تفوق قدرة الإنسان ، ومن هنا جاء خوف الإنسان من هذه القوة الخفية التى يمكنها أن تؤثر فيه أو عليه ( بدافع منها أو بتوجيه من شرار الإنس ) دون أن يراها أو يملك وسيلة لدفعها ، هذا الخوف أحاط موضوع الجن بالكثير من الحكايات والأساطير . وقد ااستغل الدجالون والمشعوذون هذا الخوف ولعبوا عليه وضخموه فى عقول العامة ، وأقاموا على أساسه ركاما هائلا من المعتقدات والممارسات الأسطورية والسحرية جعلت لهم سلطانا على عقول وقلوب الدهماء خاصة فى المجتمعات المتخلفة . ولكى يستمر سلطانهم وسيطرتهم فهم يحيطون أفكارهم وممارساتهم ببعض التصورات شبه الدينية لكى يحتموا بها ويزيد تأثيرهم فى الناس . وللأسف الشديد لم يعد تأثيرهم يقتصر على العامة كما تعودنا ، وإنما استطاعوا ببراعتهم وخداعهم واستخدامهم للرموز الدينية أن يغزوا عقول المتعلمين والمثقفين فأصبح من روادهم عدد لابأس به من حملة الدكتوراه وبعض أصحاب الرأى والفكر .
وعلى الجانب الآخر فقد أدت الاكتشافات الطبية الكبيرة فى مجال الأمراض النفسية إلى الاعتقاد بأن كل شىء أصبح واضحاً وأن ما كان يعتقده الأولون من حالات تأثير للجن أصبحت الآن مفهومة من خلال عمليات اللاشعور التى تقوم بوظيفة دفاعية لمصلحة توازن المريض وأكثر هذه الحالات إثارة للجدل هى حالات الهستيريا وهى الحالات المسئولة عن هذا التشوش فهى التى استغلها المعالجون الشعبيون لإثبات صحة عملهم وفاعليته وهذه الحالات تصيب الشخصيات غير الناضجة انفعاليا والقابلة للإيحاء فى نفس الوقت فيحدث أنه فى مواجهة ضغوط معينة كعدم قدرة الطالب أو عدم رغبته فى إكمال الدراسة أو عدم تكيف زوجة فى زواجها أن يحدث انشقاق فى مستوى الوعى فتحدث حالات الإغماء أو الصرع الهستيرى أو يتصرف الشخص كأنه شخص آخر ليعبر عما لايستطع التعبير عنه فى حالاته العادية وأحيانا يتغير صوته ويأتى بأفعال تثير خيالات العامة وتأويلاتهم ودهشتهم فيلجأون إلى بعض المعالجين الشعبيين حيث يقومون ببعض الإيحاءات للمريض أو إيلامه بالضرب إذا لزم الأمر فيفيق من هذا الإنشقاق الهروبى بسرعة تبهر العامة وتزيد ثقتهم بهذا المعالج ، ولكن الأعراض ما تلبث أن تعود عند أول ضغط نفسى أو اجتماعى لأن المعالج لم يبحث عن الأسباب وإنما عالج العرض الموجود فقط فى جو من الغموض ، بل ويحدث أن يتمادى المريض فى أعراضه ويطورها بعد ما سمع ورأى من إيحاءات عن تلبس الجن له وتزداد الأمور تعقيداً وهنا يعود أهل المريض إلى المعالج الذى يبتزهم تحت وهم تأثير الجن . وقد أراد بعضهم أن يوسع تأثيره على الناس فسجل أشرطة تبين كيف يخرج الجن من المرضى وانتشرت هذه الأشرطة وسببت فزعاً لكل من سمعها ، وقد جاءوا للعلاج من تأثيرها وقد قدر لى أن أسمع عدداً من هذه الأشرطة وما رأيت فيها إلا حالات هستيرية كالتى سبق وصفها تتحدث تحت تأثير إيحاءات المعالج .
يقول الشيبخ الشعراوى ( 1990 ) : ويريد الله سبحانه وتعالى أن يزيل خوفنا من أن يصيبنا ضرر من هذه القوى التى ترانا ولا نراها ، فيطمئننا بأنه جل جلاله يحفظنا ويرعانا .. لاينام ولايغفل .. قيوم على كونه ..أى قائم عليه فى كل ثانية .. فيقول جل جلاله :
" الله لا إله إلا هو الحى القيوم لاتأخذه سنة ولا نوم " ( البقرة 255 )
ثم يريد الحق تبارك وتعالى أن يزيد اطمئناننا .. فيقول لنا أنه عز وجل هو خالق السماوات والأرض .. ولذلك فإنه لايوجد من خلقه من يستطيع أن يخرج عن مشيئته .. فالمخلوق خاضع خضوعا تاما للقوانين التى أرادها له الخالق .. لايمكنه أن يتمرد عليها .. وذلك حتى لانخشى أن يتمرد مخلوق من مخلوقات الله ويفعل شيئا لم يأذن له به خالقه .. فيقول جل جلاله :
" له مافى السماوات وما فى الأرض " ( البقرة255 )
ونظراً لكثرة الممارسات المؤسفة والخاطئة فى هذا المجال فقد أعلن معظم الأطباء استنكارهم لما يحدث وامتد الاستنكار ليشمل أمورا حقيقية ثابته فى الكتاب والسنة ولكنها أحيطت بأخطاء المشعوذين ومبالغات العامة وأوهامهم .
والجن يمكن أن يؤثر فى الانسان بطريقة لانعلم كيفيتها ( وهذا ليس قاصرا على الجن بل إن كل شئ فى الكون يؤثر ويتأثر بالأشياء الأخرى ) فقد قال الله تعالى :- }الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ المَسِّ{( البقره 275 )
قال ابن كثير رحمه الله فى تفسير هذه الآية ما نصه : - أى لا يقومون من قبورهم يوم القيامة إلا كما يقوم المصروع هاله صرعه وتخبط الشيطان له وذلك أنه يقوم قياما منكراً .وقال ابن عباس رضى الله عنهما فى تفسير هذه الآية : آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنوناً يخنق .
وقال الرسول e فى الحديث الصحيح الذى رواه الشيخان عن صفية رضى الله عنها :- (ان الشيطان يجرى من ابن آدم مجرى الدم) .
إذن هذه النصوص تدل على إمكانية تأثير الشيطان فى الإنسان مع إعطاء صورة الجنون أو اضطراب الحركة والتصرف .
ولكن مدعى العلم بأسرار الجن بالغوا فى هذا الأمر فادعوا أن كل الأمراض هى مس من الجن أو هى تأثير سحر ليبتزوا المرضى المساكين وخاصة أصحاب الأمراض المزمنة الذين يتلمسون الشفاء فى أى مكان وبأية طريقة وهكذا انتشرت العرافة والكهانة بصورة جديدة تخفى نفسها خلف آيات من كتاب الله يقرؤها هؤلاء حتى يظلون فى حمايتها وتزداد قوة تأثيرهم فى العامة .
وعلى الجانب الآخر – كما ذكرنا - بالغ الأطباء فى استنكار ما يحدث وإنكار تأثير الجن والسحر والحسد بالكلية واللوذ بمكتسبات الطب التى كشفت الكثير من الغموض وقد اعتقد الكثيرون منهم أنه لم يعد هناك شىء بعيد عن البحث والتجربة الملموسة .
والواقع الحقيقى غير ذلك فمازلت أسباب كثير من الأمراض النفسية فى مجال النظريات التى تتغير من وقت لآخر ومازالت هناك مناطق شديدة الغموض حيث تم وصف الكثير من مظاهر الأمراض ولكن بقيت المسببات فى حاجة إلى بحث طويل .
وحين أقول هذا لا أبرر الخوض فى مبالغات تأثير الجن والاستكانة السلبية لهذه القوى الخفية بديلا عن البحث الجاد عن أسباب يمكن معالجتها بالوسائل العلمية المتاحة وإنما أرجو أن يتخلى الطرفان المتناقضان عن موقفهما المتطرف لتكون الحركة واعية وموضوعية مع الاعتراف والالتزام والاعتقاد بما ورد من آيات وأحاديث صحيحة فى هذا الشأن دون تقليل أو تهويل .
لكل داء دواء بعيداً عن التعميم الخاطئ فى التشخيص والعلاج :
فى الصحيحين عن عطاء عن أبى هريرة قال : قال رسول الله e : (ما أنزل الله من داء إلا أنزل له شفاء)
وروى مسلم فى صحيحه من حديث أبى الزبير عن جابر بن عبد الله عن النبى e أنه قال : (لكل داء دواء فإذا أصيب دواء الداء برأ بإذن الله عز وجل) ، ففى ذلك الحديث الأخير علق الرسول e البرء بموافقة الداء للدواء فإنه لا شئ من المخلوقات إلا له ضد وهذا يؤكد فكرة نوعية وتخصيص العلاجات للأمراض المختلفة فليست كل الأمراض تعالج بنفس الطريقة كما يفعل بعض المعالجين الشعبيين فيعطون نفس المادة لكل الأمراض ويتبعون نفس الطريقة فى كل الحالات وهذا تعميم خاطئ دحضه الرسول بحديثه .
وفى قوله e (أنتم أعلم بأمور دنياكم) توجيه منه إلى إعطاء كل شئ لمن تخصصوا فيه وعلموه بالدراسة والتجربة والتمحيص .
وفى المسند (والسنن) عن أبى خزامة قال : قلت يا رسول الله : أرأيت رقى نسترقيها ، ودواء نتداوى به ، وتقاة نتقيها ، هل ترد من قدر الله شيئاً ؟ فقال : (هى من قدر الله ) .
فقد تضمنت هذه الأحاديث إثبات الأسباب والمسببات وإبطال قول من أنكرها .
يقول ابن القيم فى الطب النبوى : (وفى الأحاديث الصحيحة الأمر بالتداوى وأنه لا ينافى التوكل ، كما لا ينافيه دفع داء الجوع والعطش والحر والبرد بأضدادها بل لا تتم حقيقة التوحيد إلا بمباشرة الأسباب التي نصبها الله مقتضيات لمسبباتها قدرا وشرعا ، وأن تعطيلها يقدح في نفس التوكل ، كما يقدح في الأمر والحكمة ، ويضعفه من حيث يظن معطلها أن تركها أقوى في التوكل ، فإن تركها عجزا ينافي التوكل الذي حقيقته اعتماد القلب على الله في حصول ما ينفع العبد فى دينه ودنياه ودفع ما يضره في دينه ودنياه ، ولابد مع هذا الاعتماد من مباشرة الأسباب ، وإلا كان معطلاً للحكمة والشرع ، فلا يجعل العبد عجزه توكلاً ولا توكله عجزاً " .
وفي قوله e " لكل داء دواء تقوية لنفس المريض والطبيب ، وحث على طلب ذلك الدواء والتفتيش عليه ، فإن المريض إذا استشعرت نفسه أن لدائه دواءً يزيله ، تعلق قلبه بروح الرجاء ، وبردت عنده حرارة اليأس ، وانفتح له باب الرجاء وكذلك الطبيب إذا علم أن لهذا الداء دواء أمكنه طلبه والتفتيش عليه .
صرع الأبدان وصرع الأرواح :
قال ابن القيم في " الطب النبوي " صفحة 66 : " الصرع صرعان : صرع من الأرواح الخبيثة الأرضية ، وصرع من الأخلاط الرديئة والثاني هو الذي يتكلم فيه الأطباء في سببه وعلاجه ". ولكن ابن القيم رحمه الله لم يذكر كيفية التفريق بين نوعي الصرع ، وربما له العذر فى ذلك فلم تكن فى عهده وسائل تشخيصية مثل رسم المخ الكهربائى ، ولم يكن موضوع الأعراض الإنشقاقية والتحولية (الهستيرية) معروفا بدقة فى ذلك الوقت ، ولكن يكفيه فخرا أنه استنبط أن ثمة نوعين مختلفين من تلك النوبات التى تصيب الإنسان .
أما الروايات التي ذكرت في مثل هذه الحالات فإما أنها اعتمدت على وحي من الله أو بصيرة شخصية خاصة .
فقد جاء في حديث يعلى بن مرة عن النبي e أنه أتته امرأة بابن لها قد أصابه لمم فقال له النبي :
" أخرج عدو الله أنا رسول الله " . قال : فبرأ ( أخرجه الإمام أحمد 4/170 ، 171 ، 172 ) .
ووردت روايات أخرى عن إخراج الجن على يد ابن تيمية كما ذكر ابن القيم في الطب النبوي صفحة 768 وهذه قد اعتمدت على بصيرة ابن تيمية الخاصة وقوة إيمانه وتقواه .
ومع هذا لم يثبت عن الرسول e أنه عالج هذه الحالة بالضرب أو الخنق وإنما ثبت العلاج بالضرب عن ابن تيمية فقط كما ذكر ابن القيم . ولم يثبت فى التاريخ الإسلامى أن عرب الجزيرة توافدوا بالمئات أو الألاف طلبا للعلاج بالرقيا على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم أو صحابته الكرام ، وإنما كانوا يتوافدون لمعرفة الإسلام كدين ينظم حياتهم الدنيوية والأخروية . أما فى عصور التدهور الحضارى فقد تمادى الكثيرون ممن يعلمون وممن لا يعلمون في هذا الأمر فاعتبروا كل الأمراض تلبس جن واعتبروا أنفع الوسائل هي الضرب المبرح أو الخنق أو الكي أو إيذاء المريض بحجة إيذاء الجن المتلبس وقد حدثت مآس كثيرة نقابلها كل يوم وأدت في بعض الأحيان إلى وفاة بعض المرضى كما حدث في مصر لامرأة ضربوها حتى ماتت وشاب آخر مات تحت وطأة الضرب بحجة إخراج الجن ، إضافة الى انتهاك حرمات الكثير من النساء وهتك أعراضهن على أيدى مدعى العلاج بالقرآن والقرآن منهم ومن أفعالهم براء .
والسؤال الهام هنا : من يستطيع الآن أن يفرق بين الحالة التي تلبسها الجن ( كم يزعم المعالجون الشعبيون ) وبين الحالات المرضية الأخرى ؟ والجواب هنا لا أظن أنه من السهولة بمكان .
ومن خلال عملي في مجال الطب النفسي رأيت مدعى إخراج الجن يعالجون حالات مرضية نفسية وأحياناً عضوية معروف أسبابها ولها تسلسل سببي منطقي صريح في حياة المريض وليس فيها غموض تلبس الجن وهم مع ذلك يصرون على تلبسها بالجن وهذه الحالات ساءت كثيرا بسبب ما بث في عقولها من خيالات وصاروا يعانون من اضطرابات نفسية شديدة نظرا لخوفهم الشديد من هذه القوى الخفية التي تحاربهم ونظرا للجو الأسطوري المخيف الذي يعيشونه عند هؤلاء المعالجين .
السحر :
اان هناك قوى خفية فى الكون ( كما ذكرنا آنفا ) ، وأن من هذه القوى السحر ، وأن السحر ليس حقيقة ولكنه تخيل لشئ غير واقع ، وأن الذى يسحر هو أعين الناس ، وأن السحر يدخل الرهبة فى النفوس ، ويجعلها تستسلم لما يريده الساحر ، وأن الساحر يستعين بقوى بحكم عناصر خلقها أكبر من قوة الانسان وهم شياطين الجن
( الشعراوى 1990 ) ، وذلك مصداقا لقوله تعالى : " سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم "
( الأعراف 116 ) .
والسحر قد ورد ذكره فى القرآن الكريم فى أكثر من موضع نذكر منها قوله تعالى : " واتبعوا ماتتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت . وما يعلمان من أحد حتى يقولا انما نحن فتنة فلا تكفر . فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه . وما هم بضارين به من أحد الابإذن الله . ويتعلمون مايضرهم ولا ينفعهم . ولقد علموا لمن اشتراه ماله فى الآخرة من خلاق . ولبئس ماشروا به أنفسهم لوكانوا يعلمون " (البقره102).
ويتضح من هذه الآيات أن السحر شئ خفى يتعلمه البشر من الشياطين ، وهو يمكن أن يؤثر فى السلوك
( يفرقون به بين المرء وزوجه ) ، ولكن هذا التأثير معلق بمشيئة الله ( وماهم بضارين به من أحد الابإذن الله ) ، وأن هذا السحر ليس فيه نفع بل كله ضرر ( ويتعلمون مايضرهم ولاينفعهم ) وهذا الأمر واضح جدا فى الواقع حيث نرى أن الساحر رغم مايستعين به من قوى شيطانية خفية الا أنه يعيش حياة ملؤها البؤس والشقاء ولايستطيع دفع هذا عن نفسه رغم ما يدعيه من قدرة على التأثير فى حياة الناس ، وهو يحتاج لما فى يد الناس من مال لكى يعيش .
وأول شئ جاء فى القرآن الكريم هو " يفرقون بين المرء وزوجه " ، وهذه التفرقة يمكن أن تتم بأمور مادية .. ألايوجد فى الحياة العادية من البشر - الذين لايراعون منهج الله – من ينقل كلمة هنا وكلمة هناك فيفرق بين الزوجين ؟ .. يوجد ونحن نشهد بذلك .. فاذا كان ذلك يحدث فى الأمور المادية فإنه يحدث أيضا فى الأمور الغيبية .والحق سبحانه وتعالى له أمور غيبية لايمكن أن نقول فيها كيف ؟ .. فهو سبحانه وتعالى أخبرنا أن التفرقة بين المرء وزوجه يمكن أن تحدث بالسحر ، ولكنه لم يبين لنا ماهى الطرق التى تحدث بها .. كما أخبرنا الحق جل جلاله أن الضر يحدث بالسحر ، ولكنه لم يخبرنا سبحانه عن كيفية حدوثه (الشعراوى 1990 ) .
" روى البخارى فى صحيحه 10/192 .. ومسلم فى صحيحه 4/1719 عن عائشة رضى الله عنها قالت : سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم يهودى من يهود بنى زريق .. يقال له لبيد بن الأعصم .. قالت : حتى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخيل اليه أنه يفعل الشئ وما يفعله .. حتى إذا كان ذات يوم _ أو ذات ليلة – دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم .. ثم دعا .. ثم دعا .. ثم قال : ياعائشة .. أشعرت أن الله أفتانى فيما استفتيته فيه .. جاءنى رجلان فقعد أحدهما عند رأسى والآخر عند رجلى .. فقال الذى عند رأسى للذى عند رجلى .. أو الذى عند رجلى للذى عند رأسى : ما وجع الرجل ؟ .. قال مطبوب .. أى مسحور .. قال : من طبه ؟ قال : لبيد بن الأعصم . قال : فى أى شئ ؟ قال : فى مشط ومشاطة وجف طلعة ذكر .. قال : فأين هو ؟ قال : فى بئر ذى أروان .. قالت : فأتاها رسول الله صلى الله عليه وسلم فى أناس من أصحابه .. ثم قال ياعائشة : والله لكأن ماءها نقاعة الحناء .. ولكأن نخلها رؤس الشياطين .. قالت : فقلت يارسول الله أفلاأحرقته ؟ .. قال : لا .. أما أنا فقد عافانى الله وكرهت أن أثير على الناس شرا .. فأمرت بها فدفنت " .
هذا الحديث قد أثار جدلا كثيرا بين العلماء وبنيت عليه الكثير من الممارسات ، وهنا نقول باختصار :
" كون محمد صلى الله عليه وسلم سحره اليهود .. هذا ليس اتهاما ضده .. ولكنه تحد للإنس والجان بأن يفعلوا أقصى مايستطيعون ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم .. والله جل جلاله سينصره عليهم .. ولو أنهم لم يستعينوا بالسحر والجان لقالو لواستعنا بالسحر لكانت لنا الغلبة عليه .. ولو أن الحق سبحانه وتعالى أبطل السحر قبل أن يقع .. لقالوا لو أن السحر لم يبطل لكان لنا معه شأن آخر .. ولكن الله سبحانه وتعالى شاء أن يستعان عليه بالسحر والجان .. وأن تسحر عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم – كما سحرت عينا موسى من قبل – ثم يدله الله جل جلاله على مكان السحر ليبطله . على أن السحر الذى تعرض له رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم كان من نفس نوع السحر الذى تعرض له موسى عليه السلام وهو سحر التخيل الذى يؤثر على العين وحدها ولايؤثر على العقل أو القلب ولاباقى أعضاء الجسم ..وإن كان الله قد أعطى بعض خلقه القدرة على الاستعانة بالشياطين فى إيذاء البشر .. فإنه قد احتفظ لنفسه سبحانه وتعالى بإذن الضر .. وطلب منا أن نستعيذ به من السحر " ( الشعراوى 1990 ) . يقول تعالى :
" وماهم بضارين به من أحد إلا بإذن الله " ( البقرة 102 )
وهذا الحديث – كما ذكرنا - قد بنى عليه كثير من الناس أفعالا لا يقرها الله ورسوله فأصبح هناك قوم وظيفتهم عمل السحر وفك السحر وزاد روادهم من العامة وبعض الخاصة بحجة أن السحر ورد في القرآن وورد في الحديث وزاد من خبثهم أنهم يخرجون ما يدعون أنه سحرا محاط ببقايا شعر لكي يشبه ما ورد في الحديث .
ولو تأملنا الأمر جليا لوجدنا أن الرسول e حين سحر توجه إلى ربه ولم يتوجه إلى عراف فدله الله عليه أي أن المسألة نوع من الوحي والكشف الخاص بالرسول e وقد نهانا e في أحاديث صريحة ( سنذكرها لاحقا) عن الوقوع في خطأ العرافة والكهانة طلباً لفك السحر أو دفع الحسد أو إخراج الجن .
وقد ورد السحر فى كتاب الكبائر للامام الحافظ شمس الدين الذهبى على أنه الكبيرة الثالثة ( بعد الشرك بالله وقتل النفس ) . وعن على ابن أبى طالب رضى الله عنه قال : " الكاهن والساحر كافر " ( الكاهن الذى يدعى معرفة الغيب ، والساحر يدعى التأثير فى الأحداث وتغيير القدر ، وكل هذه أباطيل ) ( الذهبى 673-748هجرية ) . وعن أبى موسى رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ثلاثة لايدخلون الجنة : مدمن خمر ، وقاطع رحم ، ومصدق بسحر " ( رواه الامام أحمد فى مسنده ) .
وعن بجالة بن عبدة أنه قال : " أتانا كتاب عمر رضى الله عنه قبل موته بسنة أن اقتلوا كل ساحر وساحرة " ( رواه البخارى ) ، فالسحرة يشيعون الفتنة والهلع فى نفوس الناس كما أنهم يشيعون التفكير الخرافى الذى جاء الاسلام لمحاربته .
ويقول الشيخ الشعراوى فى حكم السحر : " إن الذى يستعين بالسحر انما يستعين بقوة أكبر من قوة الانسان .. واستعانته به تحدث خللا فى المجتمع البشرى .. تماما كالذى يملك مسدسا وسط مجموعةمن الذين لايملكون سلاحا .. فان قوته تغريه على الظلم وعلى البطش . ولذلك فقد حرم الله الإستعانة بالسحر ، واعتبره نوعا من الكفر ، لأن الساحر يعتقد أنه بذاته وعلمه يستطيع أن يسيطر على غيره فى الكون "
( الشعراوى 1990 ) .
وعن أبى هريرة رضى الله عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال : " اجتنبوا السبع الموبقات " قالوا يارسول الله وما هن ؟ قال : " الشرك بالله ، والسحر ، وقتل النفس التى حرم الله الابالحق ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتولى يوم الزحف ، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات " ( متفق عليه ) . أنظر كيف جاء السحر بعد الشرك مباشرة لما فيه من الحرمة الشديدة ، فلا يتعلم السحر مؤمن ، وقد جعل الله السحر فتنة لمن أراد أن يتبدل الكفر بالايمان وما له فى الآخرة من خلاق ( موزه 1990 ) .
وربما يسأل سائل : اذا كان السحر يحمل كل هذا الشر فما هى حكمة وجوده ؟ .. والاجابة هى أن الله سبحانه وتعالى قد شاءت حكمته أن يبتلى الانسان بالخير والشر مصداقا لقوله تعالى : " ونبلوكم بالشر والخير فتنة " ( الأنبياء 35 ) ، ومن سنة الله فى الكون أن يجعل قوى الشر تقابلها قوى الخير لكى يختار الانسان من بينها ثم يحاسب على اختياره ، إضافة إلى أن وجود هذه القوة الخفية التى لايملك الإنسان دفعها عن نفسه بنفسه يجعله يلجأ الى ربه مستعيذا منها .
الحسد :
ذكر الحسد في سورة الفلق :- ) قل أعوذ برب الفلق من شر ما خلق ومن شر غاسق إذا وقب ومن شر النفاثات في العقد ومن شر حاسد إذا حسد ( .
والحسد هو تمنى زوال النعمة .. دون أن يكون الحاسد مستفيدا مما سيحدث .
" والحسد مقطوع به ، وصحيح مؤكد الوجود ، لأنه ورد فى القرآن الكريم .. وهو شر من قوى الغيب التى تضر الإنسان .. ولذلك طلب منا الحق سبحانه وتعالى أن نستعيذ به جل جلاله : ( ومن شر حاسد إذا حسد ) ....وإذا كنا لانعرف شيئا عن الحسد .. فإننا نقول إن الشئ كلما كان دقيقا لاتراه العين ..كان أثره وفعله أكبر .. وكان عنيفا فى عمله ، فأدق الجراثيم مثلا هى أعنفها فى التأثير على الجسم .. وهى أقواها فى مققاومة الادواء .. وإذا أردنا أن نقرب الصورة ةإلى الأذهان نقول بأن أشعة الليزر التى تم اكتشافها فى العصر الحديث تستخدم فى العمليات الجراحية الدقيقة وفى أشياء أخرى كثيرة دون أن يراها المريض أو يتعرف عليها وهى تدخل الى جسده .. إذن هناك شئ خفى عن العين يستطيع أن يدخل الى الجسد .. ويفعل فيه أشياء أكثر من مشرط الجراح . ماالذى يدريك أن عين الحاسد تخرج منها أشعة أشد فتكا من أشعة الليزر ؟ " ( الشعراوى 1990 ) .
النهى عن إتيان الكهان والمنجمين والعرافين وأصحاب الرمل وقارئى الفنجان وغيرهم :
إن من حكمة الله فى الكون أن تكون هناك قوى خفية لاندركها ومع ذلك يمكن أن يكون لها تأثير على الإنسان بشكل لانعلم كيفيته ، وهذا التأثير لايحدث إلا بمشيئة الله سبحانه وتعالى ، ومادام الأمر كذلك كان من المنطقى أن نلجأ الى الله تعالى مباشرة ودون وسطاء للإستعاذة به من تأثير هذه القوى الخفية ، وهو سبحانه قد حثنا على ذلك فى سورتى الفلق والناس ( المعوذتين ) ، ولكن الذى حدث عند كثير من الناس أنهم حين اعتقدوا فى وجود هذه القوى بالغوا فى تأثيرها واستقر فى وعيهم خوف هائل منها وراحوا يطلبون العون عليها من العرافين والمنجمين وضاربى الرمل وضاربى الودع وقارئى الفنجان فحدث انحراف فى التصور والإعتقاد واللجوء الى غير الله وإضفاء قدرة وربما قداسة على هذه القوى الخفية ومن يظنون أنهم يدفعون تأثيرها . ولما كان هذا أمر يمس صلب العقيدة لذلك جاءت النصوص الدينية الصريحة تصحح الإتجاه وتأخذ بيد الناس نحو الله الذى يملك كل شئ ولا يخرج شئ فى الكون عن مشيئته :
عن عائشة رضى الله عنها قالت : سأل أناس رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكهان ، فقال : " ليسوا بشئ " ، فقالوا : يارسول الله إنهم يحدثونا أحيانا بشئ فيكون حقا ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" تلك الكلمة من الحق يخطفها الجنى فيقرها فى أذن وليه ، فيخلطون معها مائة كذبة " ( متفق عليه ) .
وعن صفية بنت أبى عبيد ، عن بعض أزواج النبى صلى الله عليه وسلم ورضى الله عنها عن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " من أتى عرافا فسأله عن شئ فصدقه ، لم تقبل له صلاة أربعين يوما " ( رواه مسلم ).
وعن ابن عباس رضى الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من اقتبس علما من النجوم ، اقتبس شعبة من السحر زاد مازاد " ( رواه أبو داوود بإسناد صحيح ).
العلاج بالتمائم والرقى :
سأل أحد القراء فضيلة الدكتور يوسف القرضاوى عن علاج زوجته عند أحد المعالجين بالقراءة والتمائم ، فرد عليه فضيلته قائلا ( القرضاوى 1418ه-1998م) : لقد جاءت الأحاديث تحذر المسلمين من مثل هذه الأمور وتنهى أن يعتمدوا فى علاجهم وتداويهم على مثل هذه التمائم ، قد سماها الإسلام تمائم ، وهى أشياء كانوا يعلقونها على الأولاد ونحو ذلك لتدفع الجن أو تدفع العين أو ماأشبه ذلك ، فقال النبى صلى الله عليه وسلم : " إن الرقى والتمائم والتولة شرك " ، والرقى جمع رقية وهى أن يرقى الشخص ويعزم عليه بكلام لايفهمه .. فهذه الرقى ممنوعة ..إلاماكان منهلا مأثورا عن النبى صلى الله عليه وسلم مثل : " اللهم رب الناس أذهب الباس ، اشف وأنت الشافى ، لاشفاء إلاشفاؤك ، شفاء لايغادر سقما " ( رواه أحمد وأبوداوود والبيهقى والحاكم وصححه وأقره الذهبى ) . والتولة بوزن عنبة لون من السحر تلجأ اليه المرأة تتحبب به الى زوجها فيما تزعم .
ويستطرد فضيلته قائلا : " وكان الواجب على هذا الأخ السائل أن يعرض زوجته على طبيب ، فإما أن يعالجها وإما أن يحيلها على طبيب أخص منه .. وقد قال صلى الله عليه وسلم : " تداووا عباد الله ، فإن الله تعالى لم يضع داء إلا وضع له دواء .. " ( رواه أحمد وأصحاب السنن وابن حبان والحاكم وقال الترمذى حسن صحيح ) . وجاء فى صحيح البخارى عنه عليه الصلاة والسلام : " إنما الشفاء فى ثلاثة : شربة عسل أو شرطة محجم ، أو كى بنار " . فلم يجعل الشفاء فى التمائم ولا فى القراءة ولا فى نحو ذلك ، وإنما جعلها فى الأمور الطبيعية وهى جوامع الطب : مايتناول عن طريق الفم ، ومثله الآن الدواء ، وشرطة المحجم : العمليات الجراحية ، والكى ، ومثله الآن الجلسات الكهربائية ، فكل هذا من الطب الذى جاء به الإسلام "
( القرضاوى 1418ه-1998م ) .
اختيار الطبيب الحاذق :
أمرنا رسول الله e بالبحث عن أحذق الأطباء للعلاج فقد ذكر مالك في " موطئه " عن زيد بن أسلم أن رجلاً في زمان رسول الله e أصابه جرح فاحتقن الجرح الدم وإن الرجل دعا رجلين من بني أنمار ، فنظر إليه فزعما أن رسول الله e قال لهما : " أيكما أطب "؟ فقال : أو في الطب خير يا رسول الله ؟ فقال : " أنزل الدواء الذي أنزل الداء " ( الموطأ 4/328 بشرح الزرقاني ).
وقد روى عمرو بن دينار عن هلال بن يساف قال : دخل رسول الله e على مريض يعوده فقال : " أرسلوا إلى طبيب " فقال قائل : وأنت تقول ذلك يا رسول الله ؟ قال : " نعم إن الله عز وجل لم ينزل داء إلا أنزل له دواء ".
وقد شدد الرسول في عقوبة من يمارس الطب بدون علم كاف به وحمله دية الخطأ في حديثه الذي رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله e : " من تطبب ولم يعلم منه الطب قبل ذلك فهو ضامن " أي متحمل الدية ، وكم من الأخطاء يرتكبها مدعو الطب دون حساب .
مخاطر العلاج الشعبى المتستر بالرموز شبه الدينية :
1 – الغموض الذى يحيط بالعملية العلاجية برمتها ، ونتيجة لهذا الغموض فإن المريض يلقى بنفسه فى المجهول ، وكل احتمالات الفشل أو النجاح قائمة ، والمسألة أشبه بمقامرة بلا أى ضمانات . وهذا الغموض يجعل خبرة المعالج الشعبى غير قابلة للنقل إلا بشروط سرية خاصة تعمل تحت الأرض .
2 – السلبية والاعتمادية من جانب المريض وذويه ، فليس مطلوبا منهم فعل شئ ذا بال إلا الاستسلام للمعالج الشعبى وتوجيهاته الغامضة .
3 – التلويح بالحل السحري : إن كثيراً من المعالجين الشعبيين يلوحون للمريض وأسرته بإمكان حل مشاكلهم بطريقة سحرية لا تتطلب الكثير من الجهد من المريض أو من أهله ، وهذا ربما يكون أحد العوامل التي تفسر إقبال الناس على العلاج الشعبي الذي يعد ( ولا يفي ) بالحل السحري السريع دون استفسار أو تقصي أو شرح أو بذل جهد ، وإنما كل المطلوب تناول بعض السوائل أو لبس بعض التمائم أو تكرار بعض العبارات غير المفهومة ، وهذا يؤدي إلى كثير من المشاكل المعرفية والسلوكية الخطيرة مثل نشر التفكير السحري بين الناس ، وتوقع الحلول السحرية لمشاكل يومية واقعية كانت تحتاج لبذل جهد حقيقي من المريض وأسرته ومجتمعه .
4- سهولة تغلغل الدجالين والمشعوذين في مجال العلاج الشعبي نظراً لعدم وجود ضوابط تحدد ماهية العلاج الشعبي ؟ ، ومن هو الذي يحق له ممارسته ؟ ومن الذي سيعطيه ذلك الحق ؟ ، ويحاسبه إذا أخطأ ؟ ، ويسحب منه ترخيص العمل إذا خرج عن حدود الممارسة .
5- عدم وجود قوانين ونظم وأخلاقيات تحكم ممارسة العلاج الشعبي .
6- استغلال بعض اللافتات الدينية لتغطية ممارسات خاطئة ليس لها علاقة من قريب أو بعيد بالدين ، وهذا يؤدي إلى خلط مفاهيم خاطئة بمفاهيم دينية ، فيؤدي إلى اضطراب في تصورات العامة واعتفاداتهم .
7- احتمالات تقديس المعالج إذا حقق نجاحاً ملحوظاً في بعض الحالات ، وهذا ربما يؤدي بالمريض وأهله إلى التعلق بغير الله . وقد سئل الشيخ محمد بن صالح العثيمين : هل يمكن أن يؤدي العلاج عند المقرئين إلى نوع من التقديس لهم ، وكيف يمكن تفادي ذلك ؟ .. فأجاب فضيلته قائلاً : " هذا يختلف باختلاف الناس ، فمن الناس من يقدس من أسدى له خيراً ، حتى ولو كان أمراً دنيوياً ، ومنهم من لا يقدسه ولكنه يرى أن له معروفاً عليه لا يكافئه إلا بقضاء حاجه . لكن إذا كان الشفاء بالقراءة الشرعية فإن التقديس للإنسان أكثر توقعاً مما لو كان بغير ذلك ، لأنه ربما يعتقد أن لهذا الرجل منزلة عند الله عز وجل وأنه بسبب هذه المنزلة فقد كتب الله له الشفاء على يديه ، لكن الواجب أن يعلم الإنسان أن القراءة هي سبب للشفاء والدواء الذي حصل به الشفاء وإنما هو سبب ، والله سبحانه وتعالى هو المسبب " .
8- استخدام بعض الوسائل التي تضر المريض أو ربما تودي بحياته مثل الخنق والضرب والحرق والصعق بالكهرباء من قبل بعض المعالجين . يقول الشيخ عبد العزيز الحمدان : " إن هناك أساليب خاطئة يتبعها البعض مثل حرق أيدي النساء بالنار أو بجهاز كهربي ، أو الخنق والضرب بحجة إخراج الجني من الدم . وإني أعجب من هذه الأساليب ، فهل هذا نقص في الاعتقاد بأن كلام الله ليس كاف في العلاج ، أم هي رغبة في التأثير على ذلك الجني بالرهبة والضرب ، وهنا أقول : إنه يكفي كلام الله رهبة ، فلو نزل على جبل لزلزله وتصدع "
9- ابتزاز أموال الناس تحت أسماء مختلفة كالتبرعات أو النذور أو دفع ثمن الماء والزيت مضاعفاً .. إلخ .
10- التعميم ، بحيث يعتبر كل مريض ممسوس أو معيون أو مسحور ( أو على الأقل أغلب المرضى ) ، وتمارس معهم نفس الطريقة في العلاج . وهذا عيب كبير يمحو الفوارق الفردية ، ويهمل الاحتياجات الخاصة لكل حالة . وكنتيجة لهذا التعميم نجد بعض المعالجين الشعبيين يعالجون مجاميع غفيرة بالميكروفون في مكان واحد .
11- القفز إلى استنتاجات خطيرة بلا دليل مقنع ، فمثلاً بعض المعالجين يقول لك إن هذا الشخص لديه مس من الجن أو عين أو سحر دون أن يكون لديه دليل واضح على ذلك ، أو يسوق أدلة تحدث لأغلب الناس كالأحلام المزعجة والصداع والضيق ... إلخ ، أو يعتمد على أن هذا الشخص يشكو من حالة غريبة احتار الطب فيها .. مع العلم بأن كل الأمراض المعروفة حالياً احتار الطب فيها لفترة وبعد ذلك عرف أسبابها وعلاجها ، إذن فليست حيرة الأطباء أو فشلهم دليلاً على أن الحالة بها جن أو عين أو سحر . يقول الشيخ علي العامري ( وهو من أشهر المعالجين بالقراءة سابقا وقد توقف عن ذلك بعد أن تبين له الحق ) : " أنا أول ما دخلت في هذا الأمر كان كل من يأتيني ويسقط ويصيح أتصور أن هذا جني ، لأنه ليست لدي خلفية في الموضوع لكن اثني عشر عاماً كفيلة بأن تعطيني دراسة وافية لهذا الموضوع ، وعرفت بعد هذه التجربة أنه ليس هناك أي شيطان يتلبس الإنسان بهذه الطريقة وأن كل من يزعم ذلك كاذب إلا في حالات معينة ".
ما الحل ؟
الجواب يمكن إيضاحه في النقاط التالية :-
أن الجن والسحر والحسد قوى خفية ثابتة بالكتاب والسنة ولا يعلم كنهها إلا الله سبحانه وتعالى ، وهى لاتضر ولاتنفع إلا بإذن الله ولحكمة يعلمها سبحانه واتقاؤها يتم باللجوء اليه وحده دون وساطة من كهان أو عرافين أو دجالين مهما اختلفت صفاتهم ومهما تستروا خلف لافتات دينية أو شبه دينية (2) إن ادعاء المعالجين الشعبيين ( مهما اختلفت أسماؤهم ) بأن حالات معينة بها مس من الجن أوتأثير سحر أو حسد إنما هو نوع من الظن الذى لايقوم على دليل من العلم التجريبى أو من الشرع ، وهو تجرؤ على الغيب الذى اختص الله سبحانه وتعالى وحده بمعرفته .
(3) إن الممارس لمهنة الطب النفسي يلاحظ أن معظم الحالات التي تتردد للعلاج لها مسار مرضي محدد وتسلسل منطقي واضح واستجابة معقولة للأدوية المتاحة رغم قصورها . وإذا كانت هناك نسبة من الأمراض النفسية ما زالت أسبابها الحقيقية غامضة فهذا يدعونا إلى البحث والدراسة للوصول لأسبابها وليس أضر علينا من إلقاء كل الأمراض على تلبس الجن أو السحر أو الحسد لأن ذلك يوقف حركة الاجتهاد والبحث البشري ولو كان الحال هكذا لما اكتشف علاج مرض واحد . وهذا الإجتهاد الإيجابى نوع من السعى والأخذ بالأسباب الذى حث عليه صحيح الدين .
(4) من الصعوبة على أي شخص أن يجزم بأن حالة معينة هي مس للجن أو سحر أو حسد ولم يثبت عن الرسول e أنه عالج كل الحالات على أنها مس جن أو سحر أو حسد ولكنه عالج بكل الوسائل المتاحة فى عصره ، فقد عالج بعض الحالات بالعسل وعالج أخرى بالكي وعالج بالحمية وعالج بحبة البركة وعالج بالحناء وعالج بالعصابة للرأس ... إلخ. وأمر صحابته بالذهاب للطبيب وهو رسول الله ودعاؤه مستجاب ولكنه يعلمنا الأخذ بالأسباب ، إذن فالتعميم والتعتيم الذي يمارسه بعض المعالجين الآن ما هو إلا جهل بالدين أو الطب أو كلاهما معاً .
(5) أن الرسول e نهى عن إتيان الكهان والعرافين ونهى عن تصديقهم ، وما يفعله الكثيرون من المعالجين البدائيين اليوم لا يخرج عن كونه " عرافة " أو " كهانة " لأنهم يجزمون بتلبيس الجن والجن غيب عنا والجزم بالغيب عرافة ( حتى ولو تستروا بشعارات ورموز دينية أو شبه دينية ) والمريض المسكين حين يذهب إلى أحدهم فهو يرمي نفسه في المجهول .
(6) أن الاستعاذة من الجن ومن السحر ومن الحسد أمر بسيط علمنا إياه رسول الله e بقراءة المعوذتين وآية الكرسي وباقي أدعية الصباح والمساء وبتقوية العلاقة بين الإنسان وربه دون الحاجة إلى وسيط وهذه الأدعية يقرؤها الشخص المريض نفسه أيا كان نوع مرضه أو يقرؤها عليه أحد أقاربه أو أصدقائه ولا يكون هناك شخص بذاته يتولى هذه المهمة ويتخذها وظيفة وإلا أصبحت كهانة صريحة .
(7) ليس هناك ما يمنع بل إنه من الضروري الجمع بين أخذ الدواء الذي يصرفه الطبيب المتخصص وبين الدعاء وقراءة القرآن والرقية الشرعية التي علمنا إياها رسول الله e فكل هذا من أمر الله أما الأخذ بشيء مع إهمال باقي الأشياء فهو من قبيل الإختزال ، فالإنسان جسد وروح ولا يمكن الفصل بينهما وللجسد
ما يفيده وللروح ما يلائمها .
الرقية الشرعية :
في صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري ، أن جبريل عليه السلام أتى النبي e فقال : يا محمد ! أشتكيت ؟ فقال : " نعم " ، فقال جبريل عليه السلام : " بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك من شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك باسم الله أرقيك " .
وهذه الرقية بصيغتها البسيطة يكفى أن يقرأها أحد الأقارب على المريض دون حاجة لتعريضه لممارسات الدجالين والمشعوذين ومدعى العلم الذين يوحون الى المريض ايحاءات شيطانية أو سحرية لايملكون عليها دليل إلا ظنونهم الخاصة . وحين يقرأ أحد افراد الأسرة الرقية على المريض واضعا يده على موضع الألم فإن فى ذلك رسالة حب وحنان ومودة تضاف الى بركة الرقية وتأثيرها الروحانى .
الخلاصة
لم أجد أجمل من كلمات فضيلة الشيخ الشعراوى ( رحمه الله ) لإيجاز هذا الموضوع :
" إذا كان ايماننا قويا بالله – واتجهنا اليه سبحانه وتعالى نستعيذ به – فانه جل جلاله يقينا شر هذا كله .. ولكن الذى يبقى فعل هذه الأشياء .. أننا لانلجأ الى الله جل جلاله .. ولكن إذا أصابنا ضرر فاننا نحاول أن نلجأ الى قدرات البشر ، فإذا أصيب الانسان بضرر السحر ، فإنه ينتقل من ساحر الى ساحر .. يحاول أن يبطل أثر السحر .. مع أنه لو اتجه الى الله تبارك وتعالى .. بقلب مخلص ..فإن السحر يبطل فعله . وكذلك الحسد .. نحن نحاول أن نلتجئ الى التمائم أو الأحجبة .. أو أشياء أخرى كالإستعانة بخرزة زرقاء أو غير ذلك . هذه التمائم كلها لاتضر ولاتنفع .. ولا تذهب حسدا ، ولاتزيل سحرا .. وهذا نوع من الشرك نحذر الناس منه .. لأن الفعل فى الكون كله لله سبحانه وتعالى وحده .. فلايوجد فعال لما يريد .. إلا الحق جل جلاله .. فإذا التجأنا لغير الله عز وجل .. نطلب منه الحماية أو إزالة الضر أو غير ذلك .. فإن هذا يكون نوعا من الشرك " ( الشعراوى 1990 ) .
الله تبارك وتعالى أمرنا فى كتابه العزيز .. أن نستعيذ به من كل هذا .. فقال جل جلاله :
" قل أعوذ برب القلق من شر ما خلق ومن شر غاسق إذا وقب ومن شر النفاثات فى العقد ومن شر حاسد إذا حسد " ( سورة الفلق )
وقوله سبحانه وتعالى :
" قل أعوذ برب الناس ملك الناس إله الناس من شر الوسواس الخناس الذى يوسوس فى صدور الناس من الجنة والناس " ( سورة الناس )
فنحن فى سورة الفلق نتجه الى الله ونستعين به فى الأمور التى لاإرادة لنا فيها .. ولانستطيع فيها دفع الضر عن أنفسنا .. وفى سورة الناس نتجه الى الله جل جلاله ونستعيذ به فى الأمور التى لنا فيها إرادة .. ولكننا نخاف أن نضعف أمامها ( الشعراوى 1990 ) .
والخلاصة كما يقول الشيخ الشعراوى : " أن السحر والحسد من القوى الخفية فى الكون .. ولكنها قوى موجودة .. والله سبحانه وتعالى أخبرنا بها .. وأن الله جل جلاله قد أعطانا فى قرآنه الكريم مايقينا شر هاتين القوتين .. وطلب منا أن نستعيذ به منهما .. وأن من يتلو المعوذتين - وهما سورتا الفلق والناس _ كل ليلة فإن الله يحرسه ويحميه . كما أن فى آية الكرسى حماية لمن يتلوها من كل سوء .. ولنعرف أننا يجب أن نتجه إلى الله سبحانه وتعالى ..لأنه وحده القادر على حفظنا وحمايتنا " .
وفي النهاية أرجو أن يكون الميزان قد اعتدل بين ما هو طب ملموس وبين ما هو غيب نعتقده بعيدا عن الخرافات والأوهام والدجل ، فالإسلام دين الحقيقة والوسطية والإعتدال .
الهاربة لربها- عضو جديد
- عدد المساهمات : 27
تاريخ التسجيل : 21/12/2009
رد: حيرة مريض نفسى بين الطب والغيب
الله يجزاكم بالخير بس بغيت اتكلم مع دكتور او دكتوره نفسيه بس معرف كيف ونا سجلت بهذا المنتدى علشان كذا افيدوني ومشكورين
ام عبدالرحمن- عضو
- عدد المساهمات : 2
تاريخ التسجيل : 19/06/2010
رد: حيرة مريض نفسى بين الطب والغيب
اهلا بكى معنا كعضو جديد نعتزر عن تاخر الرد تفضلى خير
الفقير الى الله- عضو قديم
- عدد المساهمات : 155
تاريخ التسجيل : 29/05/2009
شـموع الامـل للدعم النفسى وتطوير الـذات :: شموع الامل النفسية :: استشارات اجتماعية :: استشارات و مشاكل المراة النفسيه
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الثلاثاء 10 يونيو - 5:52 من طرف ترانس مشعل
» التفكير.. خارج الخوف داخل الامل
الثلاثاء 10 يونيو - 5:51 من طرف ترانس مشعل
» الشعوب والحكومات ... مابين التمرد والعصيان والتطوير والإصلاح
الثلاثاء 10 يونيو - 5:49 من طرف ترانس مشعل
» التحول بين الواقع والخيال:طرق التحول الجنسي
الثلاثاء 10 يونيو - 5:47 من طرف ترانس مشعل
» لا تكن لطيفا أكثر من اللازم ..!
الثلاثاء 10 يونيو - 5:38 من طرف ترانس مشعل
» 50 نصيحة لك قبل أن تكبر.
الثلاثاء 10 يونيو - 5:32 من طرف ترانس مشعل
» سااعدوووووني
الإثنين 24 مارس - 15:19 من طرف Tomorrow is better
» وساوس و خوف شديد
الأربعاء 19 مارس - 6:47 من طرف Tomorrow is better
» طرق التحويل من خارج جمهورية مصر العربيه
السبت 11 مايو - 0:32 من طرف Admin